عندما ظهر العدد الأول من مجلة "حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي" لم يكن يعلم المشرفون عليه أنه سيكون بمثابة النواة الأولى لأكبر مدرسة تاريخية في القرن العشرين، كان ذلك يوم 5 أيلول/ديسمبر 1929، تحت إدارة علمين من أعلام التاريخ المعاصر هما لوسيان فيفر المتخصص في التاريخ الحديث، ومارك بلوخ المتخصص في التاريخ الوسيط الأوروبي.
هدف علم التاريخ هو فهم الحاضر وليس فقط التأريخ للماضي ومعرفته
إن تاريخ الصدور له دلالة لافتة حيث يتزامن مع انفجار أكبر أزمة اقتصادية في أروقة وول ستريت في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم ما لبثت الأزمة أن انتشرت في باقي دول العالم معلنة عن أكبر أزمة اقتصادية يعرفها النظام الرأسمالي المعاصر. ولعل هذا الحدث كان أحد الأسباب التي أدت إلى يقظة المؤرخين الجدد للالتفات إلى هذا الحدث الذي سيلعب لا محالة دورًا حاسمًا في تاريخ الغرب بأكمله. وليس اعتباطًا أن يقترن الاقتصاد بالتاريخ في عنوان العدد الأول من هذه المجلة والتي لا زالت تصدر إلى اليوم.
لقد عكست المجلة هذه ثورة كبيرة في مجال البحث والكتابة التاريخيين، وشكلت قطيعة مع الكتابة التاريخية الكلاسيكية انطلاقًا من مبدأ أساس أن هدف علم التاريخ هو فهم الحاضر وليس فقط التأريخ للماضي ومعرفته.
وبالتالي كانت المجلة بمثابة إعلان عن ميلاد التاريخ الجديد الذي أراد له مؤسسوه أن يكون إبداعًا في مستوى المناهج والأفكار والمواضيع وأساليب البحث والتعاطي مع الظاهرة التاريخية. فالمؤرخون الجدد أصبحوا يعتمدون على مصادر جديدة مثل دفاتر العدول والتاريخ الشفوي والتراث المادي، وانتقلوا من السرد التاريخي والكرونولوجي للأحداث إلى دراسة مواضيع جدية مثل الموت والعلاقات الجنسية، وأنماط الحياة اليومية، والطقوس الدينية، والمتخيل الاجتماعي، وعالم الغيب، والاختلافات العقائدية بين الناس داخل مجتمع واحد، والحب، والخوف، والوعي واللاوعي.
كما انتقل هؤلاء المؤرخون من الاهتمام بتاريخ السلطات الحاكمة والسلالات القديمة والانتصارات الحربية إلى التاريخ الشعبي، الذي يهتم بالمهمشين والفقراء والمرضى والمجانين والسجناء واللصوص والرعاة والمومسات. تلك المواضيع المسكوت عنها والتي كان يعتبرها المؤرخ الكلاسيكي من الموضوعات الخسيسة في مقابل الموضوعات النفيسة.
أما على المستوى المنهجي فقد اعتمد التاريخ الجديد على المقاربة الشمولية في البحث التاريخي، وذلك بالاستعانة بمختلف العلوم الدقيقة والإنسانية من رياضيات وطب وبيولوجيا وجغرافيا وعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا. فالظاهرة التاريخية لا تنحصر في حقل معين ولا يمكن فهمها بما يكفي من الدقة لو اقتصر البحث في ذلك على علم واحد.
لا تنحصر الظاهرة التاريخية في حقل معين ولا يمكن فهمها بما يكفي من الدقة لو اقتصر البحث في ذلك على علم واحد
عندما انتقلت إدارة المجلة من ستراسبورغ إلى باريس انضمت إليها مجموعة من الأسماء الجديدة وأبرزها فرناند بروديل الذي ضخ دماء جديدة في هذه المدرسة، خاصةً عندما ولج معظم أعضائها إلى مؤسسات جامعية عليا مثل المعهد التطبيقي للدراسات العليا، والمدرسة التطبيقية للدراسات العليا. بالإضافة إلى جامعة السوربون والمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية. وأصبح المؤرخون الجدد يتحلون مواقع مهمة في المؤسسات الثقافية ودور النشر الكبيرة، بالإضافة إلى حضورهم القوي في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية كي تصل أفكارهم إلى أكبر عدد ممكن من الجمهور.
يرى جان كلود شميت في دراسته الموسومة بـ"تاريخ المهمشين" بأن التاريخ الجديد هو بمثابة ثورة كوبيرنيكية نقلت التاريخ من المركز إلى الهامش، وجان كلود شميت أحد رواد هده المدرسة، يهتم بالبعد الأنثروبولوجي التاريخي للظواهر التاريخية، فالتاريخ الكلاسيكي كان يهتم بالمركز ودور النخب السياسية ورجال الدين والقادة الكبار، أما التاريخ الجديد فهو تاريخ المهمشين الذين تم وضعهم على هامش النسق العام، انطلاقًا من القيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة في المجتمع.
لكن هذه الفئات الهامشية هي فئات متحولة ومتغيرة حسب الظروف، ففي أوروبا مع بداية الثورة الصناعية دخل التجار الصغار في المركز بعد أن كانوا في الهامش بسبب عدم كفاءتهم الطبقية والثقافية، ولكن مع تطور المقياس الاقتصادي دخلوا المركز وحظوا بالاحترام الكامل.
اقرأ/ي أيضًا: