اللغة كمؤسسة من الحقائق التي لا يمكن الجدال حولها، هي تضبط آلية التفكير وإنتاج الأفكار، فنحن نفكر باللغة وخلالها، لننتج عبرها كل معارفنا بوصفها ذاتًا وظيفة معرفيّة-ابستمولوجيّة، لتكون الدراسات المتعلقة بها هي الأساس والأكثر قدرة على تحديد منطق التفكير، لما تختزنه من بنية للعلاقات الاجتماعية والسياسيّة والثقافية في أي بلد ناطق بلغة ما.
الثقة الكاملة بالمعجم أقرب بثقة الشعب المقموع بالدكتاتور، الأب العارف بكل شيء
تمارس اللغة علاقاتها العنيفة ضد الفرد عبر مؤسسة المعجم، فحيث إنه من المفترض اكتسابها ليقوم الإنسان بأبسط وظائفه وأكثرها بداهة ألا وهي "التفكير"، يأتي المعجم كقوّة تحاول المفردات والعبارات الجديدة التي تنشأ في الإعلام والأدب والحياة اليومية نيل الاعتراف من قبله كي تدخل ضمن بنية اللغة.
المعجم في هذه الحالة دكتاتور وطاغية، هو العارف الذي يُفسّر الكون، يوازيه في الثقافة العربيّة النص القرآني، الذي تحولت بسببه اللغة من صيغة بشريّة تواصليّة إلى مقدّسة، وابتُدع له تقنيات لتفسير غموض مفرداته التي لا تتواجد أحيانًا في المعاجم بما يُعرف بـ"غريب القرآن"، إلا أن سطوة المعجم ما زالت قائمة، بوصفه المرجع الأول للغة، أمّا الدراسات التي ترتبط باللهجات والكلمات اليوميةّ فما زالت ضعيفة أمام سطوة المعاجم الكبرى، لكن لم يعدّ المعجم دكتاتورًا؟
تقنيات المعجم
ما يميز المعجم أنه يملك تقنيّة خاصة لقراءته، هو مرتب حسب الأحرف كوسيلة للضبط لا لتقديم المعنى، كذلك يمكن قراءته من أي صفحة، حيث يبيح للقارئ حرية الانتقال من دون المساس بجوهره غير المحدد ضمن بنية معنى واحد. هو ذو معرفة كاملة. القارئ يملك ثقة بالمعجم بوصفه الحجة في أي فكرة، وكل التلاعبات اللغوية التي لا يحويها المعجم تبدو هزيلة، ما لم تكن (مقدّسة)، فالثقة الكاملة بالمعجم أقرب بثقة الشعب المقموع بالدكتاتور، الأب العارف بكل شيء، والمسؤول عن كافة جوانب الحياة، وهو أشبه بالناظم في بنية بطركية صارمة.
فالمعاجم أنواع، كحالات الدكتاتور وصفاته، مقسّمة بصورة بيروقراطيّة هائلة لا تترك مجالًا للتلاعب، أما اختراقه أو الإضافة عليه أو الحذف منه فذلك من أصعب المهمات التي تناضل فئات ومجتمعات بأكملها لأجلها، وأحيانًا أفراد، وخصوصًا أن المعجم يحفظ التراكيب والتعبيرات ذات المعاني التي تختزن التمييز والاختلاف. نظام شمولي كامل يشكّله المعجم. صحيح أنه مرتبط بآلية التفكير وإنتاجها، لكن في العمق هو يمارس سطوة عليها عبر كلماته وتعاريفها، بالإضافة إلى صرامة القوانين المؤسساتيّة المرتبطة بإدخال كلمة جديدة عليه. فالإحالات التي يعيدنا إليها المعجم تجعل خطاب الكثيرين غير متماسك، لأن المعجم يمتلك المعاني التي قد لا تكون مدركة من قبل منتج الخطاب، هو يمتلك حساسية التأويل ضمنه بوصفه مرجعية الإحالة في المعنى المجازي.
شعريّة المعجم
ما يميز المعجم أنه انتصار كلّي للتقنية على حساب الحكاية، إذ لا يقدم حكاية. هو معرفة مؤرشفة ومخزنّة بصورة سهلة الوصول. للمعجم بيروقراطيّة لا يمكن أن يمتلكها شاعر، لا مجال للانتهاكات في المعجم. هو رتيب وقاس وجلف. صحيح أن أنواعه مختلفة ومتعددة المواضيع لكن لا يمكن الخروج منه. الكلمات التي لا تحويها المعاجم منفيّة، مشؤومة، تٌتداول في الخفاء، لكن ما يثير الفضول أكثر أن مؤلفي المعاجم الكبرى في اللغة العربيّة أشخاص، بشر، أفراد، أي نهاية، يَحضر الهوى البشري، مهما حاول المؤلف أن يكون دقيقًا، كما أنها -المعاجم- تنتج بُحكم الضرورة.
ما يميز المعجم أنه انتصار كلّي للتقنية على حساب الحكاية، لأنه لا يقدم حكاية
لا بد من نظام لضبط اللغة، فالفوضى/الشعر لا بد أن تقف بوجهها مؤسسة، والخيار الأنجح هو المعجم/دكتاتور يعرف كل الكلمات ومعانيها، هو انتصار لمؤسسة اللغة من دون منازع، أما الانفتاح والارتجال اللغوي فلا مكان له. عصر الصوتيات والتجارب اللغوية اختفى، ليحلّ عصر النظام والمؤسسة اللغوية لحظة نشر أول معجم.
ضد الطاغية
بالرغم من السلطة الهائلة التي يمتلكها المعجم هناك محاولات لانتهاكه، لاجتراح الشعرية منه، محاكاته على سبيل المثال، فالكثير من التجارب الأدبيّة والشعرية حاول أصحابها تأليف معاجم خاصة بهم، لتكون انتصارًا لنرجسية الكاتب وتجربته، بأن يؤسس سلطته الخاصة على اللغة في محاولة للانفكاك من تلك المعاجم الكبرى، شعريًا. التقنية الثانية لمواجهة المعجم هي المَجاز، بالرغم من امتلاك المعجم للمعاني لكن يمكن للمجاز أن يقف كالشفرة بوجه جسد المعجم، يستنزفه، ابتكار المعاني والتجديد اللغوي يجعله ينصاع أمام التجربة الشخصية، شاعر يعمَل في دهاليز اللغة وسراديبها ليجرح جسد المعجم الذي يقف عاجزًا عن التفسير، المجاز/المتخيّل أو أبسط تركيب شعري هو الأساس في تفكيك هذه السلطة الدكتاتوريّة على اللغة، هو انتصار للرومانسية الذاتيّة بوجه المؤسسة البيروقراطية اللغوية، إذ تعجز القواعد وتقنيات التفسير عنها، لمَ؟ ببساطةٍ، لأنها شِعر.
هناك محاولات انتحاريّة شهدها تاريخ الأدب للوقوف بوجه سلطة المعجم، السوريالية، الدادائية، وغيرها من التجارب الشعريةّ التي رأت في اللغة عنفًا مستمرًا لا بد من الانفكاك منه، لدرجة ابتكار كلمات وتعابير صوتيّة فقط. الانتصار للصوت بوجه الكلمة ذات المرجعية المعجمية، هو محاولة يائسة بوجه سلطة المعجم، هو أقرب لصرخات طفولية بوجه ترسانة دكتاتور لغويّة لا يمكن انتهاكها إلا بمحاولات انتحاريّة شعريّة، إما تنجح، أو تترك أثرها كجرح في جسد الطاغية/المعجم.
اقرأ/ي أيضًا: