كم هو غريب ومزعج أن يرى الإنسان نفسه في الحلم عاريًا، أو حافي القدمين، الكثير من البشر، مرّوا بتجربة مشابهة لحلم من هذا النوع. حفاة أو ربما عراة. في هذا الحلم نكون - بصفتنا المعنيين - في حالة انزعاج وقلق، ونحاول ستر أنفسنا أو ارتداء حذاء.
إن الدماغ يعيش بشكل تام على ما يتلقاه من الحواس، فهو والحال هذه، لا يُمكن له مُطلقًا اختراع شكل ليس لديه وجود في الواقع
مبدئيًا، ما يهمني في هذه الأحلام، هو أننا في الغالب نُشاهد البشر المحيطين بنا في الحلم غير مُبالين - بعكس الواقع - بكوننا حفاة أو عراة.
اقرأ/ي أيضًا: كيف يستخدم العلماء والفنانون أحلامهم في عملهم الإبداعي؟
في كتاب "اللغة المنسية" يُذكر إيرك فروم، معنى وجود "العدد الغفير من الغرباء" غير المعنيين بالحالم العاري عند فرويد. يعتقد فرويد - كما يذكر فروم - أن هؤلاء الغرباء ما هم إلا نفس الأشخاص الذين كان الحالم - في حياته الحقيقية - يسير أمامهم عاريًا وهو طفل صغير، فهم لم يكونوا إلا مُجرّد استعاضة يخلقها عقل الحالم. إنه يسير أمامهم عاريًا وهم غير مهتمين. كما كان يسير أمام البالغين وهو عاري في طفولته.
من الممكن لي أن أجد تفسيرًا آخر قد يُشكك في فكرة فرويد عن "العدد الغفير من الغرباء" في الأحلام المعنية سابقًا.
إن عكس الحلم ربما سيعطينا فكرة مغايرة. الآن لنفترض - كتجربة في الواقع - الآتي: السيد فرويد يخرج إلى الشارع، وهو يرتدي ملابسه الرسمية وربطة عنق، لكنه يمشي حافي القدمين. منطقيًا سيتزاحم الناس حوله مستغربين أو ساخرين، أو شاتمين، أو رُبما - وهذا نادر - غير مُبالين. سيكرر السيد فرويد التجربة ويتابع ردات فعل الناس.
سيعود فرويد، وسأفترض بأنه سيحلم في هذه التجربة التي قام بها، هنا. هل سيشاهد فرويد "العدد الغفير من الغرباء" غير مُبالين؟ ما هي احتمالية تكرار الدماغ لأغلب المشاهد التي حدثت على أرض الواقع؟
روبرت ستيكغولد الباحث في مجال النوم في جامعة هارفرد، قام بتجربة لجعل متطوعين يلعبون على آلة تزحلق خيالية بشاشة كبيرة وأرضية متحركة، بحيث يوجه المتطوعون خشبة التزحلق عليها ويظهرون في الشاشة، في الأيام التي تلت هذه التجربة تم تسجيل أحلام المتطوعين، وكانت الأحلام في أغلبها تتحدث عن صعود وهبوط وانحدارات.
هذا يعني أن العقل سيسجل تجارب الواقع، وينقلها بصيغ اخرى نحو الأحلام. لذا من الممكن أن يكون "العدد الغفير من الغرباء غير المُبالين" في الحلم سيعيدون كلام العدد الغفير من الناس في الواقع في تجربتنا الافتراضية عن خروج فرويد حافيًا. وبالذات فيما لو أطلق أحدهم كلمة مشينة أو مستفزة ترسخ في الذاكرة.
يحتاج الدماغ البشري - في الحلم - للتأثيث، فلا يُمكن لحالم أن يحلم باللامكان
ببساطة، فإن السبب الذي يجعلنا لا نرى أحدًا من الناس في الحلم، يعترض على كوننا حفاة أو عراة في الشارع، هو لأننا - بصفتنا مُتربّين بتشدد على عدم التعري أو السير حُفاة في الشارع - وأننا لم نقم بهذا الفعل "المُشين" على أرض الواقع. ولهذا السبب أيضًا - تعاليم الطفولة - ينزعج عقل الحالم البالغ في حال حلم التعري، ويحاول ستر نفسه.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "½8".. كيف للمرء أن يتأكد أنه ليس يحلم؟
لكن السؤال يعود مرة ثانية بصيغة أخرى، لماذا يستدعي الدماغ بشرًا لا تربطهم علاقة بكون الحالم عاريًا أو حافيًا!
إن الدماغ يعيش بشكل تام على ما يتلقاه من الحواس، فهو والحال هذه، لا يُمكن له مُطلقًا اختراع شكل ليس لديه وجود في الواقع، سواء كوجود لفظي أو مادي. فمن الممكن للإنسان أن يحلم بجنّة لم يراها، لكنه في واقع الحال رآها في قراءة أو عن طريق السمع. وسيكون قول بارامنديس "ليس للإنسان أن يُفكر في شيء غير موجود أو يتحدث عنه" قابلًا للاستخدام بشكل مؤكد عن حدود قصص الأحلام. وهو قول مقارب جدًا لقول إيرك فروم "إن ما نشعر به وما نُفكر فيه خاضع لما نقوم به".
سأضع مثالًا على الفكرة السابقة، في الحلم من الممكن أن نرى شجرة تتحدث وتمشي، وهكذا شجرة لا توجد في الواقع، لكن كيف حدث ذلك! يخزن الدماغ جميع المواد الأولية لهذا الحلم كصور وأفعال وأسماء، لدينا في الذاكرة صورة شجرة، كلمة تتحرك، وكلمة تتحدث، يخلط الدماغ العجيب هذه الصور والكلمات ويجعل الشجرة تتحرك وتمشي ورُبما تتحدث.
وبشكل أساسي، يحتاج الدماغ البشري - في الحلم - للتأثيث، فلا يُمكن لحالم أن يحلم باللامكان. كلمة "رأيت نفسي" التي يرددها راوي الحلم، تُثبت وجود مكان ما، مرسوم بتجميعة للصور الواقعية لكن على طريقة اللاوعي العشوائية.
وعلى أساس فكرة التأثيث، يضطر العقل البشري لمماشاة الحدث في الحلم، فلا يوجد سيناريو للحلم مُعد مُسبقًا بشكل مؤكد. لذا عندما أخرج خارج المنزل حافي القدمين، يُظهر اللاوعي لي، صورة شارع، أو أي شيء من الصور المخزونة في الذاكرة والمرتبطة بحركة الخروج من المنزل. ولهذا أيضًا يظهر الناس غير مبالين، فهم باعتقادي لم يكونوا سوى ديكور للحدث ليس أكثر. لكنهم ديكور لا يشبه أبدا ما يضعه عقل الروائي "الواعي" في خلفية أحداث روايته.
يونغ: "فكما يمثل الجسم البشري متحفًا كاملًا للأعضاء، كل عضو فيه لديه تاريخ تطوري يجره خلفه، علينا أن نتوقع أن العقل مكوّنًا بطريقة مماثلة"
إنني أرى أن كل ما هو حلم أو خيال، هو في الأصل واقع تمت المبالغة فيه، تشويهه أو تجميله، وفي احتمال آخر خلطه. ومن هذه المبالغة أو التشويه، ينشأ الخيال المقصود. كالأدب مثلًا.
اقرأ/ي أيضًا: أحلام فلاديمير نابوكوف تكشف عن تجارب العودة بالزمن
في قصة "حلم رجل مضحك" يكتب ديستويفسكي حكاية رجل يحاول الانتحار، فيحلم أنه يقتل نفسه، ويُحمل ثم يوضع في القبر، لكن ديستويفسكي يقطع النص بجملة خارج الحلم للسارد "كُنت فيما مضى أتخيل كيف ساُدفن في القبر، أجدني دائمًا أربط بين القبر ومشاعر الوحدة والإحساس بالبرد الشديد، ولهذا فأنا الآن أشعر بالبرد الشديد، ولا سيما في نهايات أصابع قدمي".
لا أحد بطبيعة الحال، يستطيع تخيل شعور إنسان ميت في قبر، لذلك يضطر الإنسان - في محاولة لكشف الغموض - توقّع هذه المشاعر، وهذا التوقع يكون حاضرًا في الوعي ثم ينتقل للحلم، كما في قصة ديستويفسكي.
لكن هناك وجهة نظر أخرى عن الأحلام يطرحها كارل يونغ، فهو يعتقد أن الأحلام من الممكن لها أن تنشأ من حكمة لا واعية، بمعنى أدق فإن يونغ يقول "فكما يمثل الجسم البشري متحفًا كاملًا للأعضاء، كل عضو فيه لديه تاريخ تطوري يجره خلفه، علينا أن نتوقع أن العقل مكوّنًا بطريقة مماثلة".
ويورد يونغ حلمًا عن أستاذ اعترته رؤية - حلم مفاجئ لدرجة أنه ظنّ نفسه مجنونًا، لكن يونغ أخذ من الرف كتابًا عمره 400 عام وقال للأستاذ الحالم "لا داعي لتعتقد إنك مجنون.. فقبل أربعمئة عام كانوا يعرفون رؤياك".
هكذا نرى كارل يونغ يعتقد بوجود أحلام مشتركة بين بني البشر، فمن الممكن للإنسان أن تظهر له في الحلم رؤئ لم تمرّ سابقًا على حواسه.
في كتاب "الإنسان ورموزه"، يحكي يونغ قصة طفلة لم تتجاوز العاشرة سجّلت أحلامها في دفتر، تسعة من أحلامها الاثني عشر متأثرة بفكرة الفناء والوجود، وبحسب والد الطفلة، فهو مع يونغ كانا معتقدين أن هذه الأحلام ليست هلاوس أو أوهام. وأن الطفلة لم تتلق أي تعليم بشان هذه الأفكار.
"إن يونغ يشاركني نشوة التخيّل" هكذا يصفه فيلليني أحد أبرز المتأثرين فيه، يُضيف فيلليني شارحًا ومطوّرا بشكل ما، فكرة يونغ "إن أحلامنا وكوابيسنا هي ذاتها أحلام الناس الذين عاشوا منذ آلاف السنين وكوابيسهم، إن المخاوف التي نتمتع بها في منازلنا، هي في الأساس ذات المخاوف التي عاناها سكان الكهوف". مشكلة هذه التفسيرات تتمثل في اعتمادها على افتراضات الخيال، فلا يوجد حتى الآن ما يُثبت وجود أن العقل البشري الحالي يحمل تاريخًا من الصور والذكريات للأجداد الذين لم يمرّوا على حواسنا. لكن أن نكون متشاركين معهم في المخاوف نفسها فهذه وجهة نظر تقبل النقاش.
يشدد يونغ على أهمية الخيال في حتى في الفيزباء، لكن الخيال بعد أن يتحول لرياضيات يدخل في المجال العلمي، ويتلاشى من كونه خيالًا، فالإنسان بعد أن حوّل أحلام الطيران لطائرة بمحركات، توقف عن حلم الطيران. وحتى الآن لم تنجح افتراضات يونغ الخيالية بوجود ذاكرة مشتركة بين بني البشر في اثبات نفسها من خلال طب الأعصاب.
هناك مشكلة اخرى في تعامل المحللين النفسيين مع الأحلام، يونغ وإيرك فروم وحتى لاكان، يعتقدون أن تفسير رموز الحلم يحتاج فهمًا للرموز الموجودة في الأساطير، إنهم لا يفترضون فهمًا عاديًا حتى، بل فهمًا محكمًا. لكن كيف تتم معاملة رموز الأسطورة مثل رموز الأحلام!
إن أحلامنا وكوابيسنا هي ذاتها أحلام الناس الذين عاشوا منذ آلاف السنين وكوابيسهم، إن المخاوف التي نتمتع بها في منازلنا، هي في الأساس ذات المخاوف التي عاناها سكان الكهوف
يتعامل محللو الأحلام مع الأساطير أو الموروثات الدينية كأنها حقائق. في الجزء الخاص بها من كتاب "الإنسان ورموزه" تُحلل آنييلا يافي حلم النبي يعقوب "هنا يمكننا أن نأخذ من قصة يعقوب وحلمه تلك التي رواها العهد القديم، مثالًا نموذجيًا على الكيفية التي كان يحس بها الإنسان، قبل آلاف السنين" وبتجاوز تفاصيل الحلم الطويلة الدقيقة المتسلسلة منطقيًا، يمكن أن اتساءل: لماذا يعتقد المحلل النفسي أن الحلم المكتوب في العهد القديم مثلًا، هو حلم حقيقي، مع إنه يعرف أن كاتب العهد القديم كاتب واعي وقاصد لكل كلمة؟ أعني أن حلم النبي يعقوب كتبه وعي اليقظة، وهناك اختلاف كبير بين ما يكتبه الوعي اليقظ وما يرمّزه اللاوعي في النوم. أيضا الأمر نفسه ينطبق على الأسطورة والأدب.
اقرأ/ي أيضًا: أحلام ما بعد منتصف الطريق
هل ننتهي هنا؟ لا أظن، فلا أحد يصل لنتيجة أخيرة مع الأحلام، حتى بين الخبراء المتخصصين، إيرك فروم مثلًا في كتاب "اللغة المنسية" يُفسر حلمًا بطريقة معاكسة لكارل يونغ. فأيهما أصح لمساعدة الحالم؟!
اقرأ/ي أيضًا: