يُدعى في كثير من الأقطار العربية "الصرّاف الآلي"، وفي المغرب ندعوه "الشبّاك الأوتوماتيكي". وهو، بالفعل، "شبّاك" يُطلّ علينا ويطّلع على سريرتنا، ويتابع أحوالنا، ويعرف متطلباتنا. إليه نتوجّه كلّما احتجنا ما ننفقه، وعليه نعوّل كلّما رغبنا في شيء، وهذا أينما حللنا وارتحلنا.
ربّما لا يعرف أيٌّ كان حياتنا الباطنية مثلما يعرفها هو، فهو الأعلم بما إذا كنا نعيش في بحبوحة أم في ضيق، وهو الأدرى بما إذا كنا نُقتّر في الإنفاق أم نسرف فيه، وهو الحريص على حفظ ثروتنا، والساهر على سلامة وضعيتنا المالية. فهو على اطّلاع لحظي بما "يدخل" لحسابنا وما "يخرج" منه، وهو المتابع لكل ما يلحق "رصيدنا" من تغيّر، وكل ما يستجدّ في حياتنا، من غير أن يُطلِع أحدا غيرنا على ذلك. فهو يحفظ أسرارنا، ولا يفشي ما إذا كنا نقترض أم ندّخر، وما إذا كنا نبذّر أم نتصرف باعتدال.
الصّراف الآلي يحفظ أسرارنا، ولا يفشي ما إذا كنا نقترض أم ندّخر، وما إذا كنا نبذّر أم نتصرف باعتدال
كان باحثان في إحدى مدارس الإعلام قد نعتاه بأنه "كشك لديانة افتراضية"، أصبحنا "نتوجه إليه" كلما شعرنا باحتياج. وبالفعل، فالظاهر أنه لم يعد في استطاعتنا اليوم أن نتخلى عن ممارسة هذه "الشعائر" الجديدة التي تجعلنا نقصد في ركن الشارع هذا المحراب الأتوماتيكي كي نقف أمامه بكل خشوع "نعترف" له بوضعيتنا، ونكشف له عن أسرارنا، ونعبّر له عن حاجاتنا، ونلتمس منه معونتنا. فإذا كان الإنسان في الأسطورة اليونانية يتوجّه بورع وخشوع إلى بلوتوس Ploutos، إله الثروة والرخاء، فإن إنسان اليوم يقصد هذه "الآلة" المعطاء، ليدخل معها في حوار، ويخاطبها بلغة الأرقام من غير حاجة الى استعطاف أو توسّل أو تقديم قربان، إذ يكفي أن "يفتحها" باستخدام شفرة سرية تواطأت معه عليها، حتى تضع بين يديه مختلف الخدمات التي بإمكانها أن تسديها له كي يختار ما يريده من بينها، وما عليه إلا أن يشغّل الزّر الذي يهمّه، ويُدخل المبلغ الذي يريده، حتى تنعم عليه الآلة بسخائها، وكل ذلك من غير أن يحسّ على الاطلاق بأنّ عليه أن يعترف بجميل، أو يقدّم شكرا، أو يطلب سماحا.
في المسرحية التي تحمل عنوانًا اسمَ إله الثروة، يذكر الكاتب المسرحي أرسطوفان أن زيوس، كبير الآلهة، هو الذي أفقد بلوتوس بصره، حتى يعدل في توزيع الثّروة، ويعطي لكل ذي حقّ حقه، فلا يميّز، في عطائه، بين خيّر وشرّير، ويتصرّف مثل آلة صماء، ينال من نعمها الجميع.