كان لا بدّ، خلال المعترك الذي تكوّنت فيه فضيحة شعر الحداثة، من ظهور فضّاح لها، فظهر محمد الماغوط بوصفه: الفضّاح، أو: كشّاف الفضيحة. دخل إلى بنية هذا الشعر، وفكّك خطابه وشكله بمقولات سريعة وخاطفة وعميقة.
كان الماغوط يرى أن الشعر الذي تدعو إليه مجلة "شعر" غارق في متاهات وألغاز تفصلها مائة سنة ضوئية عما يدور على الأرض
كان الماغوط يرى أن الشعر الذي تدعو إليه مجلة "شعر" غارق في متاهات جدلية عن الوجود والعدم، وألغاز تفصلها مائة سنة ضوئية عما يدور على الأرض. وأن شعراءها يكتبون في المطلق، فيما حاول هو أن يسحبهم إلى الأرض بكل ما فيها من أرصفة وتشرد وحطام. ويعتبر أنه نجح في ذلك حيث يقول: "علّمتهم التسكع في الطرقات وتحت المطر". مجلة "شعر" في تعاليها والألغاز التي طرحتها كانت تبني جدارًا شعريًا شديد السّماكة، وصعب الاختراق من كل الجهات، لكن الماغوط اخترقه: "أنا فتحت ثغرة في جدار أصم".
اقرأ/ي أيضًا: رياض الصالح الحسين.. بعيدًا عن التصفيق والتهليل
اتخذ من قصيدة النثر مجالًا حيويًا لإعلان الهبوط من سماء مجلة "شعر" إلى الأرض: موطن الناس لا الأنبياء. تلك القصيدة التي وجد أنها أعلنت نوعًا من العصيان المضاد منذ تشكلها الأول على يد مجموعة قليلة ومتناثرة هنا وهناك، وكان من بين هذه القلة: خير الدين الأسدي، وعلي الناصر، وأورخان ميسر، وسليمان عواد. وهذا الأخير الذي يقبع في مجاهل مدينة السلمية يعتبره الماغوط معلمه الأول، حيث كان يقرأ لـه رامبو مترجمًا، ويكتب قصيدة النثر، ويعتبر أنه: "شاعر مبدع على مستوى بودلير وفيرلين ورامبو"، فيما كان الماغوط وقتها لم يتجاوز الرابعة عشرة، ويتلمس خطواته الأولى المرتبكة.
يعتبر الماغوط أن "قصيدة النثر هي أول بادرة حنان وتواضع في مضمار الشعر العربي الذي كان قائمًا على القسوة والغطرسة اللفظية، كما أن هذه القصيدة مرنة وتستوعب التجارب المعاصرة بكل غزارتها وتعقيداتها، كما أنها تضع الشاعر وجهاً لوجه أمام التجربة وتضطره إلى مواجهة الأشياء دون لف وراء البحور ودوران على القوافي". ويعتبر أنها „جاءت كضرورة صحية لإلغاء دكتاتورية الشعر الكلاسيكي، إنها أشبه بعملية بتر لكل الأطراف والزوائد المعيقة لاندفاع التجربة كي تتخذ إطارها الواضح والمختلف. وهي تسعى في تجاربها الأصيلة كي تصل إلى الصدارة دون زكاة من رأسماليي الأوزان والقوافي، باعتبارها رؤية جديدة للعالم وسط زحام الاعتبارات الشاحبة وتقاليد الطرب ورقص الكلمات".
ولنا أن نتأكد من نجاحاته ومما يقول، حين نعرف أن عتاة الشعر التقليدي والأوزان حين يواصلون هجومهم على قصيدة النثر ويطلقون عليها من الأسماء ما يتوقعون أنه يُخرجها من فضاء الشعر، مثل: نثيرة، نثر شعري... إلخ، فإنهم، جميعًا وبلا استثناء، يستثنون محمد الماغوط، وإذ يريدون أن يتسامحوا حيالها ولو قليلًا، فإنهم يشترطون كتابتها "مثل" محمد الماغوط، نافين عن الآخرين إمكانية كتابتها، ليس لصعوبتها، ولكن، كما يرون، لأنها ليست شعرًا. فيما الماغوط، حصريًا، وكما يرون أيضًا، كتبها بوصفها شعرًا. وهذا استثناء لا يقاس عليه الآخرون. وثمة من ينكر على أنسي الحاج ذاته شعريته، فقط لأنه كتب قصيدة النثر. إنه لأمر صحيح أنها كُتبت، زمنيًا، قبله، إلا أنه جعلها قصيدة متكاملة، لم يكتب كلامًا شأن الكثير من لاحقيه، بل لغة شأن الشعراء. بالأحرى، لقد استخدام تلك اللغة استخدامًا خاصًا، يبدو أنه، أو بالتأكيد، مختلف حتى عن استخدامها في شعر التفعيلة، وفي شعر الرؤيا والأبطال وقضايا الأمة وانبعاثها وتغيير العالم... لقد أنزل لغة قصيدة الحداثة من سماء الروحانيات والوجوديات إلى أرض الحفاة والعراة والجائعين والمحطمين، من البلاغة إلى الاعتيادية، من التركيب المعقد إلى البساطة، من لغة الكينونة إلى اللغة اليومية:
"أيها السائح
أعطني منظارَك المقرّب
علّني ألمح يدًا أو محرمة في هذا الكون تومئ إليّ
صوّرني وأنا أبكي
وأنا أقعي بأسمالي أمام عتبة الفندق
واكتبْ على قفا الصورة:
هذا شاعرٌ من الشرق".
إضافة إلى البساطة والتجرد عن البلاغة في هذا المقطع، فإن ألفاظه تنتمي إلى الحياة اليومية حيث يتحرك الحفاة والعراة والمحطمون: "منظار مقرب، محرمة، أسمال، عتبة..." ولكي لا يبقى هذا الأفق متأرجحًا في كافة الاتجاهات، وبالتالي يفقد قدرته على التركيز أو التدليل، كما يمكن للنظريات الحديثة أن تقول، فإنه سرعان ما وضع لفظة "الشرق"، ليشير صراحة إلى أن ذلك المحيط الدلالي هو محيط شرقي، وإن الذي يقعي بأسماله في المركز منه هو "شاعر".
أنزل محمد الماغوط لغة قصيدة الحداثة من سماء الروحانيات والوجوديات إلى أرض الحفاة والعراة والجائعين والمحطمين
إلا أن هذه الاعتيادية لم تجعل الماغوط ينساق لما تريد اللغة أن تقوله، بل حقن اللغة بذلك الإكسير الذي يحول الكلام إلى شعر، ليقول هو ما يريد. بمعنى آخر: لم يستسلم لحمولة الألفاظ التاريخية والتداولية، بل واجه اللغة التاريخية، أو لغة الحداثة كما قدمها شعراء العصر الحديث، كأنه بدائي يسمي الأشياء من جديد، وكأنه يراها للمرة الأولى.
اقرأ/ي أيضًا: قصيدة النثر في مواجهة التحالفات القديمة
وبالمراجعة، يمكن العثور على عدة تقنيات لجأ إليها الشاعر ليقوم بهذا الفعل: تحويل الكلام إلى شعر، يقول:
"الآن
في الساعة الثالثة من القرن العشرين
حيث لا شيء
يفصل جثث الموتى عن أحذية المارة
سوى الإسفلت
سأتكئ في عرض الشارع كشيوخ البدو
ولن أنهض
حتى تجمع كل قضبان السجون وإضبارات المشبوهين
في العالم
وتوضع أمامي
لألوكها كالجمل على قارعة الطريق..
حتى تفر كل هراوات الشرطة والمتظاهرين
من قبضات أصحابها
وتعود أغصانًا مزهرة (مرة أخرى)
في غاباتها
أضحك في الظلام
أبكي في الظلام
أكتب في الظلام
حتى لم أعد أميز قلمي من أصابعي
كلما قرع باب أو تحركت ستارة
سترت أوراقي بيدي
كبغي ساعة المداهمة".
الألفاظ اعتيادية، والجمل بسيطة، والصياغة واضحة قريبة من لغة الناس: "أحذية، مارة، إسفلت، شيوخ، بدو، جمل، طريق، هراوات، باب، ستارة.. إلخ"، وهذا ما يؤكد عاديتها ووجودها في التداول، إذ إنها ما يتم لفظها وتداولها والتعاطي معها يومياً. لكن الشاعر دخل على هذا السياق وحرفه دون أن ينتج عن ذلك أي التباس أو غموض أو ترفع أو تعال عن الإنسان "الصغير" فجعل الساعة تشير إلى "... الثالثة من القرن العشرين"! وجعل الأحذية تدوس على الجثث، وأن الإسفلت الذي يفصل بينها مجرد تعبيد للجثث ذاتها؟ لقد دخل الشاعر، أيضًا، وسط السياق الطبيعي والعادي والمألوف لحركة الأصابع وهي تمسك بالقلم، وتكتب، وجعل التمييز بينها، لشدة العتمة، مستحيلًا. إذ، لم يعد يميز بين الأصابع والقلم: من يكتب؟ هل القلم أداة الكتابة؟ أم الأصابع هي الأداة؟ أم أن جسده يتحول إلى قلم لحظة الكتابة، أم أن القلم، في اللحظة ذاتها، يستحيل جسدًا.. إلخ. وإذ إنه يستر أوراقه بيديه لحظة الخوف من تحرك ستارة وقرع باب كما تفعل البغي ساعة المداهمة، فذلك يثير تساؤلات عن العلاقة بين البغي والأوراق التي تعني هنا الكتابة: هل الكتابة في الشرق، أو في المنطقة العربية، أو في أي مكان من الأمكنة التي تهيمن عليه حكومات الظلام، بغاء؟ ماذا تستر البغي ساعة المداهمة؟ في الثقافة الشرقية يتقدم جسد المرأة بوصفه "عورة". فهل الكتابة، إذًا، عورة يجب سترها، أو، قبل ذلك، يُمنع إظهارها؟ كذلك، ما العلاقة بين الكتابة والجسد؟ ما المقارنة بين الجسد بوصفه حالة جمالية –وهو هنا جسد بغي- وبين الكتابة بالوصف ذاته؟ ما الرابط بين الإغواء الذي يثيره الجسد، وبين إغواء الكتابة؟ ثمة تساؤلات كثيرة وغنية يثيرها هذا الكلام العادي والبسيط واليومي عبر عدم الركون إلى إبقائه مجرد كلام يقوله الناس ويقوم الشاعر بنقله كما هو، أي أن الماغوط هنا لم يحقق وظائف النثر بالوصف والمخاطبة والتقرير، بل حول الكلام إلى شعر.
إضافة إلى هذه التقنية المتمثلة بالدخول بلا هوادة على السياق لحرفه، لجأ الشاعر إلى تقنية أخرى:
"أيها العلماء والفنيون
أعطوني بطاقة سفر إلى السماء
فأنا موفد من قبل بلادي الحزينة
باسم أراملها وشيوخها وأطفالها
كي تعطوني بطاقة مجانية إلى السماء
ففي راحتي بدل النقود... "دموع"
لا مكان لي؟
ضعوني في مؤخرة العربة
على ظهرها
فأنا قروي ومعتاد على ذلك،
لن أؤذي نجمة
ولن أسيء إلى سحابة
كل ما أريده هو الوصول
بأقصى سرعة إلى السماء
لأضع السوط في قبضة الله
لعله يحرضنا على الثورة".
إن عبارات مثل: "بطاقة إلى السماء، لن أؤذي نجمة، ولن أسيء إلى سحابة" إذا انتزعناها من سياقها، فهي مجرد عبارات رومانسية اعتادت عليها الكتابة الأدبية بكافة أشكالها، لذلك، لن تجعلنا ننظر إليها على أنها شعرية، أو ذات أفق شعري.
سار محمد الماغوط على الضد من صيغة "الأنا" التي كرستها ومجّدتها الحداثة الشعرية وعموم الشعر الحديث
إلا أن الشاعر انتظر حتى نهاية المقطع، ليقوم بتحويله كاملًا، ويبرر ذلك السياق الاعتيادي لكل تلك الألفاظ التي مهدت لتلك النهاية، من حيث أنه كان يقوم بعملية استعطاف كي يصعد إلى السماء، لسبب يراه وجيهًا جدًا: "لأضع السوط في قبضة الله/ لعله يحرضنا على الثورة". لقد تحايل على المعنى المتوقع للمقطع بهذه النهاية التي انبثقت بمثابة الشحنة الإكسيرية التي توزعت على مفردات النص بكاملها: وضع السوط في قبضة الله، لعله يحرض على الثورة. إن هذه التقنية: التحايل على المتوقع من خلال النهاية، يلزمها، كما يبدو، سياق من الألفاظ الاعتيادية التي تتخذ (مهمة؟) الحشد للوصول إلى الهدف الذي يريده جرّاء ذلك. ولولا تلك النهاية لبقي ذلك المقطع كلامًا، قد يكون جميلًا، لكنه مجرد كلام.
اقرأ/ي أيضًا: منذر مصري وشركاه.. هكذا احتال الشعر علينا!
أمر آخر لجأ إليه الماغوط ليحول الكلام إلى شعر دون أن يخرج من محيط الواقع اليومي. لقد مشى على الضد من صيغة "الأنا" التي كرستها ومجّدتها الحداثة الشعرية وعموم الشعر الحديث. هذه الصيغة جعلها الماغوط مشكوكاً فيها، حين نظر إلى "الأنا" من زاوية هزيمتها:
"ألحق المارة من شارع إلى شارع
أنا بطل.. أين شعبي؟
أنا خائن.. أين مشنقتي؟
أنا حذاء.. أين طريقي؟" .
كذلك:
"فهل أنا مشروع بطل
أم مشروع خائن".
إلى آخر ما هنالك من نصوص كثيرة وعلى ذات الدرجة من القوة.
الحقيقة، إن هذا الكلام عادي جدًا: "ألحق المارة من شارع إلى شارع... أنا مشروع بطل أم مشروع خائن"، لكن تقنية تدمير الأنا التي استخدمها، والهبوط بها من عليائها في الشعر والثقافة العربيين إلى وحل الشوارع، منح ذلك الكلام أفقًا شعريًا شديد الرسوخ. فقد واجه نزعة اللغة العربية المتأصلة في تفخيم الذات والتي انتقلت إلى الحياة اليومية بيسر وسلاسة، بنزعة مضادة، دون أن يتخلى عن مفردات الواقع اليومي وتفاصيله: "المارة، طريق، مشنقة، حذاء... إلخ".
الشعر ما بعد الماغوط، وبصفة خاصة في تسعينيات القرن العشرين، تخلى نهائيًا، وبلا رجعة –كما أفترض- عن مفردات البطولة والعنترية وغيرها، لكن ذلك حدث بعد تطورات هائلة حدثت للشعر وللواقع وللثقافة، أما في زمن الماغوط فلم يكن مثل هذا الكلام وهذا القول واردين تحت أية حجة، وهنا تكمن أهميته، حيث خلق أفقًا شعريًا مغايرًا لما كان، وجال في تلك الأرض الجديدة جولات هامة، كأنه يقول إن هذه الأرض لم تزل بورًا على الرغم من دخولها المتقطع قبل ذلك من شعراء آخرين كأبي نواس مثلًا.
دراسات الشفوية، عادة، لا تحلل النص الشعري، وليس من استراتيجياتها تفكيكه لاستنطاقه أو لاستكشاف الجمالي أو العيوب التي ينطوي عليها، إنما يهمها تبيان العناصر التي جعلت منه شفويًا. في هذا الاستعراض التي أجريته، وإن سريعًا، على تجربة الماغوط، كنت أحاول فيه إظهار كيف أن الشفوية يمكن أن تكون مضادة، كيف يمكن لها أن تكون شعرية، على الرغم من أنها تستخدم المفردات ذاتها التي تجعل النص "مجرد حكي وثرثرة"، وتقبع في المحيط الدلالي ذاته!
أظن، أن كل حديث عن الشفوية المضادة لابد أن يحضر فيه، بقوة، سليل قوي لمحمد الماغوط، ومختلف عنه في الوقت ذاته هو رياض الصالح الحسين.
- النص جزء من كتاب "عودة الشفوية.. نهاية الشعر العربي"، الذي لا يزال قيد الطباعة
اقرأ/ي أيضًا: