ما يفعله الفنان المصري محمد صبحي (67 سنة) منذ زمن طويل هو مسرحة "شخصيات مفهومية" بعينها، بحيث لا تمثّل الشخصية عادةً، في مسرحه، نفسها أو محدوديتها بقدر ما هي صورة أو تمثُّل وتمثيل لجماعة ما، حقيقيّة أو متخيّلة، أو لحزمة قيمية ما، مثاليّة أو واقعيّة. وما نبتغي فعله في هذا المقال هو مسرحة صبحي نفسه، أو الدفع به صوب المسرح على أملٍ بتلمُّس التمثُّلات التي تتكثّف فيه، والتي تنعكس وتنفجر بدورها نحونا. على أن هذا "التصوير" -وإن كان من "طبيعة" الصور أنها تختزل- لا يقتفي الاختزال أو التقليص وإنما رصد الأمور ضمن اختلافها ونقصها.
ما يفعله الفنان المصري محمد صبحي منذ زمن طويل هو مسرحة "شخصيات مفهومية" بعينها
أول تلك التمثُّلات، وأكثرها شهرة، هو مُركّب الأب-العسكري، فـ"بابا ونيس" هو والد مدنيٌ يشتغل بالمحاماة، لكنّه (بما يوحي أنه نادمٌ على مدنيته) يمتلك نشيدًا خاصًّا به أقرب في توزيعه إلى المارش العسكري. والأبوية في هذه الحال، وفي غيرها، هي التي تنتج العسكرية، بل هي شرط وجودها، وهي في "يوميات ونيس" ( ثمانية أجزاء تلفزيونية؛ 1994-2013) ومن قبلها "عائلة ونيس" (مسرحية؛ 1995) أبوية جديدة وشابّة لا يظهر فيها الجدّ أو الأب الأعلى (أبو الفضل/جميل راتب) إلا كشرعية رمزية أو كأبوية سلبية لا إيجاب فيها غير تأكيد فكرة الأبوة، وهي الفكرة التي يتم تأكيدها أيضًا على نحو شجري بترديد الاسم، وتنويعاته، كاملًا من وقت لآخر (ونيس أبو الفضل جاد الله عويس عبد الحق)، وفي مقدّمة حلقات المسلسل من خلال الحديث عن القيم والأخلاق والتربية والمسؤولية والأبوية الممتدة. إنّه التمثُّل الأبوي العسكري، والذكوري بطبيعة الحال، الذي يحفظ فيه ربُّ الأسرة المعنى عن طريق الخطب العصماء والقيم العلمانية والرؤية الإصلاحية والرطانة الأخلاقوية للطبقة الوسطى. تبدو زعامة صبحي في تلك اليوميات شبيهة على نحو ساخر بزعامة فنان آخر أصغر سنًا يُقال إن سببها ناتج عن فشله في دخول كلية الشرطة، أي أن زعامة "ونيس" العصابية هي بشكل ما نوع من التعويض عن جرح نرجسي غائر.
سيحصل لهذا المُركب الأبوي العسكري تعلية وتفخيم في "فارس بلا جواد: ملحمة كفاح لإنقاذ أمّة" (خريف عام 2002)، الذي هو مسلسل يلوك، تحت مظلّة قومية رثّة، أفكارًا ومقولات وردت في الكتاب الشعبوي سيء الصيت "بروتوكولات حكماء صهيون"، وتحت راية مكافحة المستعمر سوف يروّج "حافظ نجيب" (الشخصية الأساسية التي يلعبها صبحي) معاداة السامية والشوفينية والفكر التآمُري. وهي الأفكار التي تلتحم بقوّة مع زيارة صبحي للرئيس العراقي صدام حسين في عام 2001، حين ذهب لعرض مسرحية "ماما أمريكا"؛ فلئن كان متضامنًا مع "الشعب العراقي في محنته" أثناء الحصار، كما قال لـ"الشرق الأوسط"، فإنه في حديثه المسجّل مع الرئيس العراقي بدا مقدّرًا ومغتبطًا لما يُمثّله صدام من تاريخ وأيديولوجيا. ومن طريف القول إن زعامة صدام قد سبقها جرح نرجسي عميق فلقد تم رفضه حين تقدّم للكلية العسكرية في شبابه.
يؤيد صبحي المشير السيسي، وعلى وجه الخصوص في حاجة الناس إلى التربية وتعلُّم الأخلاق، ويدعوه لأن يستمر "في ما ينشده، فقضيته عادلة، رغم أن الكلام عن الأخلاق والقيم أصبح عند البعض مثارًا للسخرية"، وهو لا يرى "إبداعًا فيما هو خارج عن قيمنا". وفق الطبيعة الكورنولوجية والتطورية لأعمال صبحي، من "عائلة ونيس" إلى "فارس بلا جواد" كلحظتين مفصليتين، يكون النظام الحالي هو أفق انتظار هذه الأعمال، أو، بكلمات أخرى، إن هذه الأعمال ما كانت إلا تمهيدًا أو دعاءً للمُنتظر أو تبشيرًا به. من هنا يكون سؤال "ما الذي يمثّله صبحي؟" قد تجسّد وأخذ زخرفه وازيّن.
اقرأ/ي أيضًا: