"إنها آلة كاتبة، ظهر سوادها بلون الفخامة، قديمة الطراز لكنها لم تعدم لمعانها بعد، ولم ينمح الحروف الذهبية المطبوعة على مفاتيحها بخط أنيق ساحر، هذه الآلة اختطفت حواسي...كانت فاتنة".
- مرسال
تمثل الآلة الكاتبة أحد أهم الاختراعات التي ساهمت في تطور الكتابة الروائية في العالم بعد القلم، ومنذ مارك توين الذي يعتبر أول كاتب استعمل الآلة الكاتبة ربطت هذه الآلة علاقة استثنائية مع الكتاب، حتى عندما ظهرت الحواسيب، تمسك بعض الكتّاب الكبار في العالم بآلاتهم الكاتبة ولم ينخرطوا في استهلاك التكنولوجيا الجديدة، ويبدو الأمر غريبًا عندما يتعلق بكاتب يعيش في قلب مجتمع ما بعد الحداثة كالأمريكي بول أوستر مثلًا. وكأن الآلة الكاتبة لها سحر خاص، وأنها تمتلك من الوفاء ما يجعلها تكسب كل هذا الحب والتعلق حتى أن الأجيال الجديدة من الكتاب يتبركون بها ويقتني الكثير منهم آلات قديمة، أو لوحات لآلات كاتبة، مما دفع بعض الشركات الصناعية إلى إعادة طرح موديلات جديدة ومتطورة من الآلات الكاتبة معدلة تكنولوجيا، وأكثر سرعة وخفة من القديمة، وتحولت أيضًا إلى فيتيش للكتاب في العالم.
تمثل الآلة الكاتبة أحد أهم الاختراعات التي ساهمت في تطور الكتابة الروائية في العالم بعد القلم
أما في مستوى الإنتاج الأدبي والفني فظل للآلة الكاتبة حضورًا في الأفلام والروايات، وعلى أغلفة الكتب، بل تحولت إلى إكسسوار من إكسسورات الإشهار التجاري أو ديكورات البيوت والصالونات. وهذا ما جعل منها جسمًا أليفًا في البيوت والمكاتب لتصبح مشكلًا من مشكلات الخيال الجمعي.
اقرأ/ي أيضًا: إدوار الخراط.. سيرة انشقاق
تحضرنا أفلام كثيرة تظهر فيها الآلة الكاتبة في أوضاع كثيرة، مرة كأداة كتابة محايدة، ومرة كضحية جنون كاتب مثل بوكوفسكي أو بطل شاينينغ، ومرة حاملة أسرار كاتب مطارد ومراقب مثل كتاب السيناريو في أمريكا الماكارثية، ومرة تتحول إلى سلاح للدفاع عن الكاتب المعتقل كما في ميزري لستيفن كينغ.
الروائي السيناريست محمد صلاح راجح يرتفع بهذه الآلة الحميمة إلى مستوى البطل الروائي في روايته "مرسال" (منشورات دار إبييدي، مصر- المملكة المتحدة)، في 207 صفحة، حيث تتحول الآلة إلى سارد يقص ثلاث حكايات تسير على نحو وئيد ومتزن ومتوازن مع حكاية الكاتب السيناريست طارق مرسال صاحب الآلة الكاتبة.
الغريب في رواية مرسال
تسرد الرواية قصة طارق مرسال كاتب وسيناريست مغمور مصاب بسدة الكتابة، وككل الكتاب تعلق بفتيش الكتابة الأكثر رواجًا منذ القرن العشرين وهو الآلة الكاتبة، وصادف أنه أقتنى واحدة مستعملة لكنه ظل عاجزًا عن الكتابة، وتباغته يومًا الآلة الكاتبة بما لم يكن يتخيل حيث بدأت تكتب له حكايات غريبة تتقاطع مع حياته الخاصة وحيوات أناس عرفهم فتنقلب حياته رأسا على عقب.
تبدأ الحكاية عند عودة طارق مرسال إلى بيته يوما فيقول: "سمعت صوتًا غريبًا من الداخل، أصخت سمعي، من أين يأتي صوت الدقات هذا! فتحت الباب ودخلت متحفزًا، الصوت يأتي من المكتب، صوت دقات الآلة الكاتبة ! اتجهت إليها بحذر، قبل أن أضيء النور سكت الصوت، غمر الضوء الغرفة، ورأيت الآلة الكاتبة ساكنة في براءة، ثمة أرواق صفراء قديمة متناثرة حولها، ممتلئة بخط الألة الكاتبة".
تسرد رواية "مرسال" قصة طارق مرسال، كاتب وسيناريست مغمور مصاب بسدة الكتابة
هذا الحدث الغريب الذي يعيشه طارق مرسال تحاول الرواية أن توهم بوقوعه فعلًا من خلال المزاوجة بين الخط الطباعة العادي وخط الآلة الكاتبة، وهكذا تدعم طوبوغرافيا الرواية عالمها التخييلي.
اقرأ/ي أيضًا: يوسف إدريس.. كاتب أم رجل دولة؟
تبدو شخصية طارق مرسال شخصية مركبة ومعقدة نفسيًا بسبب ما عاشه من حياة خاصة، أهمها طلاقه من زوجته التي مازال يحبها، وهو ما جعله يعيش في هلوسات دائمة يختلط فيها الواقعي بالمتخيل والاستيهامي، وهو ما انعكس في التقطيع الروائي وطبيعة الجملة والسرد الهيستيري الذي ينحو له أحيانًا. كل هذا جعل من الروائي يختار أسلوبًا تجريبًا معقدًا قوامه التناوب بين ما تقوله الآلة الكاتبة وما يعيشه، وتقطيعًا مشوشًا للحكايات والقصص يبرره الرأس المدبر لها والراوي المشوش.
عالم الكتابة والسينما في الرواية
تقلب الرواية موضوع الكتابة نفسه في أشكال مختلفة منها سدة الكتابة تلك الحالة التي يمر بها معظم الكتاب في العالم غير أن أثرها قد يكون كبيرًا على بعضهم إلى حد قد يؤدي بهم إلى الانتحار، كما تحضر الآلة الكاتبة كفيتيش في معظم الرواية حتى أنها تظهر في الصور الفوتوغرافية وفي أفيشات المقاهي مثل الصور الشهيرة لهمنجواي وهو يكتب على الآلة الكاتبة في الطبيعة، كما يستحضر الكاتب علاقة الأمريكي تشارلز بوكوفسكي بآلته الكاتبة. ولعل في اقتناء الشخصية الروائية الآلة الكاتبة مع نسخة من لوحة فان كوخ ووضعها فوقها في البيت لدليل آخر على تلازم أمر الكتابة بالحياة فإما كتابة أو جنون أو انتحار يشير إليه فان جوخ.
يقول: "ـ تقريبا أنت لاقيت الي بتدور عليه.
قالها جبريل وابتسم.
نظرت إليه وقد انتزعني من الآلة، كان يقف بجواري متحفظا بابتسامته المحببة، ابتسمت بمعنى أنني أوافقه الرأي. عرفني باسمه مؤكدا صحة تخميني بأنه هو جبريل صاحب المتجر، دفعت له ما طلبه مقابل الآلة ولوحة فان جوخ، وهو مبلغ جدير بصنع فجوة في ميزانيتي لكن ما اقتنيه يستحق بالتأكيد".
يرتبط رهان الكتابة للفوز بالحياة في الرواية عبر هاجس الموت الذي يعيشه أبطال الرواية منذ البداية، فمنذ أول سطر يقول الفنان مصطفى بهلول الممثل المسرحي سيء الحظ والذي يقتل دائما في أدواره على الركح:
"يراودني الموت، كما النوم مع مونيكا بيلوتشي! هذه خاطرة جميلة، لكن الحقيقة أن النوم مه مونيكا بيلوتشي لا يراودني، فقط الموت هو من يفعل".
كتابة الرواية مهمتها طرح الأسئلة بلا رحمة، بينما مهمة السيناريو أن يطرح الأسئلة ويجيب عليها
إن تمرد بهلول على مصيره اليومي في الموت على الركح كل عرض ورفضه الموت هو نفس تمرد السيناريست على سكتة الكتابة.
اقرأ/ي أيضًا: الكاتب المصري أحمد الفخراني.. الخيال أفق الكتابة
كما يفتح الكاتب محمد صلاح راجح موضوعًا أشد تعقيدًا ودقة متعلقًا بالفوارق بين أجناس الكتابة الإبداعية، وخاصة بين كتابة السيناريو وكتابة الرواية في كون الرواية مهمتها طرح الأسئلة بلا رحمة، بينما مهمة السيناريو أن يطرح الأسئلة ويجيب عليها. يقول متحدثًا إلى حبيبته الفرنسية فيفيان:"كتابة الرواية هي القدرة على طرح الأسئلة، وهو شيء عظيم، ما الذي يتساءل عنه زوربا أو راسكولنيكوف أو كارامازوف الأب؟ أما كتابة السيناريو، فهي القدرة على طرح أسئلة والإجابة عنها. لكن شتان بين طرح السؤال هنا وهناك، فالروائي يجب أن يفلق دماغ القارئ، حرفيا، بأسئلته، أما السيناريست فهو ينقر بأصابعه على جبين المشاهد، ويعلل لم كانت تلك النقرات".
هكذا يفكك الكاتب عبر شخصياته إشكاليات الكتابة وأجناسها عبر اقتحام تفاصيل التفاصيل فيها. والحق أن حيرة طارق مرسال في بعض وجوهها تذكرنا بشخصية بوكوفسكي في روايته "هوليود" التي روى فيها قصة كتابته لسيناريو "ذبابة الحانة"، وقد فتح فيها هو الآخر موضوع الكتابة وكان حضور الآلة الكاتبة حضورًا قويًا، ومنتج الفيلم يتنصت عليه في الطابق الأرضي منتظرًا أن يطل عليه صباحًا بالسيناريو، لكنه يفاجئه عندما يسأله هل بدأ الكتابة بأنه كان يكتب رسائل.
اللافت في هذه الرواية هو الكتابة المشهدية وقدرة الكاتب على الوصف الرشيق الذي مأتاه ليس من الرواية الكلاسيكية البلزاكية، إنما من متطلبات السينما نفسها، ولا غرابة في الأمر إذا ما عرفنا أن الكاتب محمد صلاح راجح؛ كاتب وسيناريست، يبلغ من العمر 37 عامًا، يعمل مدرسًا للسيناريو. وسبق أن صدرت له أربعة كتب؛ المجموعة القصصية "عندما يتكلم الصمت" عام 2011، وسينارواية "ربع مواطن" عام 2013، ورواية "هَبْ يَكّ" عام 2014، والمجموعة القصصية "يبقى وحيدًا" عام 2019. وله أعمال درامية عدة؛ منها المسلسل الإذاعي "رابع جار" عام 2018، من بطولة أحمد عيد ولطيفة، والمسلسل التلفزيوني "عقار 24" تحت التنفيذ من إنتاج سبوت 2000.
كما تحضر السينما عبر الحديث عن أفيشات الأفلام والأفلام نفسها والممثلين، وتحضر بقوة في أسلوب الكتابة وخاصة الحوار الذي يظهر كحوار في سيناريو شديد الرشاقة والخفة وبراغماتيًا، يقول في عدد قليل من الكلمات ما يكفي لتتحرك الأحداث إلى الأمام.
رواية مرسال من الروايات الجديدة لواحد من الجيل الجديد يمكن أن يذهب بالرواية العربية إلى مناطق أخرى
بعد انقطاع سنوات عن الكتابة، يخرج راجح بنص روائي جديد، بالتوازي مع مجموعته القصصية "يبقى وحيدًا" الصادرة عن نفس الدار. وربما نتعلق أكثر بمقولات بوكوفسكي عن الكتابة ومفهومها ومزاجها المقرونة بطاقة الكاتب وانفجارها لحظة، دون مقدمات. لا تفعلها، يقول هانك، "إذا لم تخرج منفجرةً منك، برغم كل شيء فلا تفعلها. إذا لم تخرج منك دون سؤال، من قلبك ومن عقلك ومن فمك ومن أحشائك فلا تفعلها، إذا كان عليك أن تجلس لساعات محدقًا في شاشة الكمبيوتر أو منحنيًا فوق الآلة الكاتبة باحثًا عن الكلمات، فلا تفعلها".
وفي هذه الكلمات ما يحيلنا إلى الكتابة بوصفها الصوت الهادر المتمدد في الجسد، وفي الوعي لتنطلق بلا مقدمات ودون حساب للكلمات.
اقرأ/ي أيضًا: عاطف عبد العزيز في "شيء من هذا الغبار".. ومن الشِّعر ما سُرد
رواية مرسال من الروايات الجديدة لواحد من الجيل الجديد يمكن أن يذهب بالرواية العربية إلى مناطق أخرى، أعمق وأكثر فنية تخلص القراءة من الخطية الثقيلة والخط الثقيل الذي أخذته منذ ثلاثة عقود أو أكثر والذي أنتج قارئًا كسولًا يصر على دور المستهلك، دون أن يجرأ على المشاركة في إنتاج النص عبر قراءة بارطية مختلفة، بارط الذي لا يرى الكتابة ممكنة إلا أثناء الحركة وتلك الحركة هي القراءة المنتجة للنص مع قراء استثنائيون يرفعون القراءة إلى عمقها المانغويلي نسبة إلى ألبرتو مانغويل؛ شغف ومناورة معرفية.
اقرأ/ي أيضًا: