18-أبريل-2018

محمد صلاح مثال لكل من يحلم بالمجد في بلاد تقهر الإنسان (كلايف برونسكيل/Getty)

طفلٌ يركل الكرة مع أصحابه في شوارع قرية "نجريج" الضّيقة. لا ملاعب هنا، وإنما أحياء وطرقات ترابية، يراها هؤلاء الأطفال بمساحة العالم كله. تنادي عليه أمّه فقد تأخّر بالعودة إلى البيت، يودّع الرّفاق ويذهب وهو يداعب حلمه اليوميّ: "هل سألعب يومًا على ملعبٍ من العشب الأخضر؟".

مهما اتسعت أحلام الطفولة وكبر مداها، تبقى لها حدود لن تجرؤ على تخطيها، لكن محمد صلاح تمادى في حلمه واللحاق بشغفه

يكبر الطّفل، ويكبر الحلم بالتّوازي مع نموّ العمر، ويزداد شغف كرة القدم. يسمع الكثير من النّصائح الّتي تلومه على إعطاء الكرة أكثر من الوقت اللّازم: "ركّز على دراستك"، "لن تفيدك الكرة"، والطّفل يكبر ويتعلّق بالحلم أكثر، ويتطلّع بلهفة إلى صور أبو تريكة، ومحمّد زيدان، وعماد متعب، التي يراها منتشرة في أحياء مدينة بسيون، كلّما زارها مع والده، ويداعب خياله قائلًا: "هل يمكن أن أصبح مثلهم؟".

اقرأ/ي أيضًا: محمد صلاح.. العقلية التي أنتجت نجمًا

مهما اتّسعت أحلام الطّفولة وكبر مداها، تبقى لها حدود لن تجرؤ على تخطّيها، ولكنّ الفتى قرّر أن يتمادى في حلمه، فها هو الآن يلحق بشغفه، ويضحّي بدراسته الجامعيّة في سبيل معانقة الحلم، ها هو يقطع الطّريق كلّ يومٍ إلى بسيون سيرًا على الأقدام، فلا طريق معبّد يصل إليها. ثمّ يركب السّيارة إلى طنطا عاصمة محافظة الغربية، ثم يستقلّ القطار إلى القاهرة، حيث يثبّت الخطوات الأولى في سلّم الأحلام الطّويل. 

يشارك في التّمرين مع فريق "المقاولون العرب"، ثمّ يعود إلى قريته ويخلد لنومه ويمارس عادته اليوميّة في الحلم! كلّ مشقّات المسافات الطّويلة كانت تخفّف ثقلها لحظات الشّغف بالكرة، فأربع ساعات على الطّريق، كان الشّاب النّاشئ يمضيها بتأمّل قرى الدّلتا ومدنها، ويسرح بالنّيل العظيم، لتسمو لذّة الحلم، يداعبها نسيم الماء، وتلحّن أنغامها عجلات القطار متلهّفة الوصول.

كبر الشّاب، وأصبح في الفريق الأوّل للمقاولين العرب. في القاهرة أينعت بذور الحلم، فها هو يلعب على ملعبٍ من العشب الأخضر، ويواجه من كان يحلم برؤيتهم من اللاعبين. ها هو يخطو خطوات تقدّمه بسرعة، كسرعته في الركض، ويصبح محطّ إعجاب الجميع.

وهنا، في القاهرة، يتطلّع إلى كبار الّلاعبين في العالم: رونالدو، ميسي، روبن... إلخ ويسأل حلمه: "هل يمكن أن أصل إليهم يومًا؟". يذهب مع منتخب مصر للشّباب إلى كولومبيا ليشارك في كأس العالم للشباب، ويتألّق المنتخب ويتألّق معه، إلى جوار النّني، وجابر، وحجازي وغيرهم من الّذين أصبحوا الآن رفاق صلاح في المنتخب الأوّل.

ثمّ يتجه إلى الأولمبياد في لندن، ويسجّل في مرمى البرازيل إلى جوار أبو تريكة، ويصبح محطّ أنظار كشّافي أوروبا، فيفتح المجد ذراعيه ليستقبل الشّاب حاملًا معه حلمه، وتقول له مدينة بازل السّويسريّة: أنا سأفتح لك أبواب المجد. من هنا ستدخل إلى أوروبّا بأسرها.

أتى صلاح من أحلامنا وملامحنا. من أبجديتنا ومن التفاصيل التي نشترك فيها معًا، ومن الظروف التي نتحجج بها كل يوم

وفي بازل، على ضفاف نهر الرّاين الّذي كان دائمًا يذكّره بالنّيل، موطن الحنين الأصلي؛ بدأت زهور الأحلام تتفتّح وظهر تألّقه، وأصبح محطّ أنظار كبرى الفرق في أوروبا. خطفه مورينيو ليضمّه إلى تشيلسي. وها هي لندن ثاني مدينة أوروبيّة تفتح حضنها له. 

اقرأ/ي أيضًا: أفضل 5 مهاجمين أفارقة في الدوري الإنجليزي

لكنه لم يوفق في تجربته هناك، وعديدة هي الأسباب لذلك، ولكن لم تُهزم الإرادة، ولم يمت الحلم الذي انتعش حين ذهب إلى فيورنتينا، حين طلبته مدينة فلورنسا الجميلة. هناك، وكأنّ مايكل أنجلو وبوتيتشيلّي، قد أضفا عليه بعضًا من بريق فنّهما، ليغدو بعد فترة رمزًا من رموز المدينة وفريقها.

ومن هناك إلى روما، إلى مدينة القياصرة والأباطرة، إلى حيث يناديك الجمال كيفما اتّجهت، أتى صلاح ليكمل جمالها بسرعته وأهدافه وتألّقه. محطّات من الصّعود والهبوط، والنّجاح والتّعثّر، قبل أن يناديه المجد بصوته العالي: نحو ليفربول وجنون الأنفيلد،. وهناك قالوا له: هنا لن تمشي وحدك بعد اليوم. 

ومضى يسجّل الهدف تلو الآخر، ويحطّم أرقامًا قياسيّة لكبار عظماء لعبوا لهذا النّادي. وكان الموسم الأوّل بمثابة الصّاروخ الّذي رفعه لأقصى مستوى في حلمه؛ لمستوى لم يكن حتّى هو يتخيّل أن يصل إليه، فمهما اتّسعت الأحلام يبقى لها حدود لا يمكن للخيال تخطيّها. 

لكن صلاح لم يلتفت لهذه الفكرة، وآمن بنفسه وبقدراته، فتخطّى كلّ الحدود الممكنة للحلم، ووصل إلى كأس العالم مع مصر للمرّة الأولى منذ 28 سنة. لقد كان الهرم الّذي اتّكأ عليه رفاقه في رحلة وصولهم، ثمّ أصبح حديث العالم بأسره، بفضل أهدافه، سرعته، قوّته وتواضعه، وبات مزارنا الّذي نتلهّف إليه مع كلّ مباراة لليفربول، بات انتظارنا له هو عنوان علاقتنا مع الكرة، فمعه أصبحت كرة القدم أكثر جمالًا واكتمالًا، وأهدافه باتت ترياقًا لنا. 

أصبح بعد موسمه الجنونيّ الأوّل مع ليفربول، ينافس أفضل لاعبي العالم. لقد أصبح بينهم، هو الذي كان يحلم بالأمس أن يلقاهم. كانوا نجومًا في السماء يتطلع إليهم، والآن بات نجمًا يتألق مثلهم. 

من القرية الّتي لا يصل إليها طريقٌ معبّدٌ، إلى كلّ طرق المجد في العالم. من أزقّة نجريج، القرية الّتي لم يكن يعرفها أحد، إلى المكان الذي لم يعد يجهله أحد. من البلاد الّتي تقتل الأحلام في مهدها، من البلاد الّتي تضع آلاف العراقيل في طريق نجاح الفرد، من البلاد الّتي تُكدّس الصّعاب والظّروف الّتي تجعل طرق النّجاح شبه مستحيلة.. من هذا كله خرج صلاح ليهدم ويحطّمّ كلّ تلك الأفكار المسبقة، وليقهر كلّ الصّعاب الّتي يمكن أن تواجه الإنسان في بلادنا.

من أين أتيتَ؟ من حلمنا، من ملامحنا، من أبجديّتنا، من التّفاصيل الّتي نشترك فيها معًا، من الظّروف الّتي نتحجّج بها كلّ يوم، من العوائق والمطبّات التي نستكين لها.. أتى ليخبرنا بأنّه لا مستحيل بعد اليوم.

لم يعد صلاح قدوة ومثال للرياضيين فقط، وإنما هو مثال لكل من يحلم بالمجد والنجاح في بلاد تقهر الإنسان

زرع الطّفل حلمه هنا، داعبه في صباه، ورعاه في شبابه، آمن به إلى حدّ الانغماس، ثمّ صرخ بصوته العالي: احلموا، فلن يعيق حلمكم شيء حين تملؤوه بالشّغف وتكسوه بالإرادة.

لم يعد محمّد صلاح قدوة ومثالًا لكلّ لاعب كرة قدم عربيّ فقط، ولا حتّى لكلّ رياضي، بل بات صلاح أيقونة ومثالًا لكلّ إنسان عربيّ يحلم بالمجد والنّجاح في هذه البلاد. ولن نبالغ لو قلنا أنّك أجمل ما حصل معنا في علاقتنا مع الكرة طوال تاريخنا يا صلاح.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هذا محمد وذاك محمد.. هل ثمة فارق؟

كيف حصل محمد صلاح على الرقم 11 من فيرمينيو؟