أواخر عام 2019 انطلقت في لبنان تظاهرات حاشدة، نحت منذ بدايتها إلى تحميل السلطة السياسية اللبنانية بكافة أصولها وفروعها مسؤولية التردي الحاصل في البلد. يومذاك، كان اللبنانيون في المهاجر شديدي الحماسة لهذا الانفجار المفاجئ في الوعي العام، وشاركوا في تظاهرات حاشدة ودورية أمام السفارات اللبنانية في القارات كافة.
المسألة اللبنانية، كمثل مسائل كثيرة أخرى في بلدان المنطقة، ليست مبسطة، ولا يمكن اجتراح حلول لها على عجل
الصعود المحتشد في المشاعر الوطنية اللبنانية لدى المغتربين، وبعضهم ولد وعاش كل سنيْ عمره في المغتربات، شكّل مفاجأة للمغتربين أنفسهم وللبنانيين المقيمين. وعلى الرغم من صدق هذا الصعود، فإن الحماسة التي دعت إليه سرعان ما خمدت وفترت همة المغتربين، بعدما تبين لهم وللبنانيين أنفسهم، أن تلك التظاهرات الحاشدة لن تنجح في وقف التراجع ووقف الانهيار.
اقرأ/ي أيضًا: كل المحال مغلقة في شارع الحمرا
المسألة اللبنانية، كمثل مسائل كثيرة أخرى في بلدان المنطقة، ليست مبسطة، ولا يمكن اجتراح حلول لها على عجل. والتهديد الذي يواجه اللبنانيين ليس أقل من زوال البلد فعليا، واستحالة قيامته على النحو الذي قام عليه منذ أكثر من مئة عام. وقد يكون هذا السبب الجوهري الذي رفع الحماسة إلى أقصى درجاتها لدى المغتربين، والذي جعل المقيمين يغادرون الحذر كليا، ويهاجمون السلطة من دون خوف أو تردد.
بين الفئتين ثمة فارق يجدر بنا التعليم عليه وتأشيره. المغتربون رأوا في ما يجري في لبنان من تظاهرات بارقة أمل بعودة البلد إليهم وعودتهم إليه. أما المقيمون فكانوا على الأرجح يعيشون حقًا في الوضعية التي وسم بها كارل ماركس الطبقة العاملة بقوله: "إن الطبقة العاملة لا تخسر حين تثور غير قيودها". المقيمون كانوا وما زالوا على حافة اليأس أو في خضمه الفعلي. وهم لهذا السبب ما زالوا يخرجون إلى الشوارع لتعريض أرواحهم لحد النطع، لأنهم ما عادوا يملكون أي شيء آخر يمكن أن يضحوا به قبل التضحية بأرواحهم.
استقراء هذا الفارق في هذا المقام، يؤشر إلى التغيرات الكبرى التي طرأت على اللبنانيين المغتربين ونظرتهم إلى هويتهم. ففي حين يسعى اللبنانيون المقيمون جميعًا إلى ابتداع طريقة تخلصهم من الهوية التي وصموا بها، كلبنانيين في زمن تذوب فيه لبنانيتهم في الهواء. فإن المغتربين باتوا يدركون في هذه اللحظة أن هويتهم المزدوجة التي كانوا يصرون على حملها سابقًا، أي قبل خراب البلد لم تعد موجودة. وأنهم اليوم أمام خيارين: إما الانتماء إلى لبنانية منقرضة، بحيث يصيح تعريف هويتهم مرتبط إلى حد بعيد بهول الفجائع التي تصيب مواطنيهم في البلد الأصلي، أو يتخلون تمامًا عن الهوية اللبنانية ويتصرفون كما لو أنهم أمريكيون أو ألمان أو فرنسيون مئة بالمئة. ويعرفون في قرارتهم أن هذه المغامرة قد لا تنجح، وأن ارتفاع احتمالات الانفجار اللبناني ورجاحتها، قد تجعلهم يخسرون ما اكتسبوه من أدوات تمويه في مغترباتهم، من قبيل إجادة اللغة الجديدة، أو التسمي بأسماء أجنبية، أو التملك في تلك البلاد. فانفجار الفجائع في البلد الأم، من شأنه أن يصم كل متحدر منه بوصمته. على نحو ما يوصم اليهود أو البوسنيون أو الأرمن بالمجازر التي تعرضوا لها. وفي هذه الوصمة ما يجعلهم أدنى كعبا من نظرائهم من المهاجرين الآخرين إلى المغتربات التي يعيشون فيها.
من طبيعة الفجائع أنها تسم الأحياء بميسمها. في حين أن الاستقرار يجعل الهويات رخوة وقابلة للطي في الجيوب
اقرأ/ي أيضًا: جرائم لا يحاسب عليها القانون
من طبيعة الفجائع أنها تسم الأحياء بميسمها. في حين أن الاستقرار يجعل الهويات رخوة وقابلة للطي في الجيوب. فالاستقرار يشكل على نحو ما هويات محمولة، يمكن حملها معنا أينما ذهبنا. في حين أن الفجائع والمجازر والتقلقل، تحول هوية المتصل بها، نسبًا، أو ولادة، أو معرفة، أو انتماء، إلى هوية صلبة وجارحة ولا مجال لإخفاء أنصالها الحادة عن أعين الآخرين.
في زمن الفجائع يصير الناجون لبنانيون، فيما يطمح العالقون في جحيم البلد الجغرافي أن يتحولوا إلى لاجئين إذا واتتهم الظروف والحظوظ.
اقرأ/ي أيضًا: