تتهامس التلميذات فيما بينهن: "هذه أم سارة، أتت لتراها، مطلقة وممنوعة من رؤيتها". يراقبن بحزنٍ وفضول عناق الأم لابنتها البالغة عشرة أعوام. يُسارعن لتناقل المزيد من المعلومات عن ظروف الفتاة التي أتت أمها إلى المدرسة كي تراها، وتحتضنها، وتطعمها من حاجات عدة حملتها إليها.
اللقاء ورغم أنه مهم من أجل الإشباع العاطفي إلا أنه يكسر نفس الطفل.
المشهد السابق لا تكاد تخلو منه أي مدرسة في ربوع قطاع غزة، إذ تضطر الفلسطينيات المطلقات للجوء إلى المدارس، كي تتمكن من رؤية أبنائهن وبناتهن، بعد أن حرمن من رؤية الأبناء، بسبب ظروف الخلافات الزوجية أو الطلاق، ولعلمهن المسبق بطول الإجراءات القانونية المتعلقة بقضايا الاستضافة والمشاهدة والحضانة.
"أريد أن أرى أمي"
منذ عام انفصلت أم سارة (32 عامًا) عن زوجها، تمكنت الأم من الحصول على قرار محكمة برؤية أبنائها في مركز مشاهدة تابع لمنظمة أهلية بقطاع غزة. التزم طليقها بإحضار ابنيه (فتى وفتاة) مرتين فقط، ثم بعد ذلك أخذ يماطل في تنفيذ القرار. تقول أم سارة :"فضلت الصمت لإرهاقي الشديد من المحاكم وإجراءاتها، ولخوفي من تطور الأمور بين أهلي وأهل طليقي إلى نزاع جديد، اتخذت قرارًا بأن أرى أبنائي هنا في المدرسة". سارة وهي تلميذة في الفصل الرابع بإحدى مدراس وكالة الغوث لتشغيل اللاجئين، تقدر تعاطف المُدرسات والإدارة معها ومع أمها، تقول الفتاة :"لا أغضب من تهامس الفتيات في أمورنا الشخصية، المهم أن أرى أمي...". الطفلة، أنضج من القانون، ومن الموروثات.
وعلى النقيض، لم تكن الفتاة التي التقت بأمها في إحدى المدارس الثانوية بغزة، إلا فتاة متزوجة مُنع أهلها من رؤيتها بسبب مشاكل حادة بين عائلتها وعائلة زوجها. اضطرت نيفين (18 عامًا) للخضوع منذ خمسة أشهر لقرارات عائلة زوجها، من أجل أن تحظى بالهدوء وتتمكن من الحصول على شهادة الثانوية العامة كما تقول... "منذ خمسة أشهر يحرم أهلي من رؤيتي وأمنع من الذهاب إليهم، بسبب قرارات عائلة زوجي". وتتابع: "هنا في المدرسة تأتي أمي لرؤيتي والاطمئنان عليَّ بين الوقت والآخر، وتحثني على الصبر حتى الانتهاء من عامي هذا".
إقرأ/ي أيضًا: غزة.. عودة إلى المدارس المقصوفة
المدارس تتعاطف
في معظم الحالات، ثمة تعاطف من قبل إدارة المدرسة، يسمح برؤية الأمهات لأطفالهن بعيدًا عن قوانين وزارة التربية والتعليم. هذا ما يؤكده لنا محامي القضايا الأسرية أحمد المصري، موضحًا أن الأسباب تكمن في اضطرار بعض المطلقات للتنازل عن حقوقهن الشرعية كلها، ومن ضمنها حقها في الحضانة أو رؤية أبنائها مقابل الحصول على الطلاق، حينها تصبح المدرسة هي الملجأ الوحيد لهن. ويعقب المصري: "الأمر أيضًا يتعلق بالنساء الأخريات، إذ تفضل المرأة في المجتمع الفلسطيني عدم رفع قضية على زوجها تحت واقع "حتى لا يزيد الطين بلة"، لذلك تلجأ لرؤية أبنائها في الروضة أو المدرسة".
ومن أسباب هذا "الواقع المر" كما يصفه المصري طول وقت التقاضي (اللجوء إلى القضاء)، ويضيف: "المرأة التي تلجأ للقضاء أمامها وقت كبير من أجل الحصول على الحكم، كما أن قضية تنفيذ الحكم تحتاج وقت في ظل تهرب الحاضن وعدم استجابته لأوامر المحكمة. هكذا، تختصر الأم تلك المعاناة والوقت الثقيل عليها بلجوء إلى المدرسة، ولقاء قليل.
في غزة، تكسر الأم كل القوانين والأعراف، وتنتهز أي فرص تختصر عليها المزيد من الانتظار، فتذهب إلى المدرسة. لكن الأمر ليس سهلًا عليها أو على أبنائها، كما يقول مدير مركز التدريب المجتمعي د. فضل أبو هين. برأيه، الأمر للأسف مذل، سواء للطفل أو أمه، ولا يوجد قانون يمنع إنسانة شريكة في إنجاب هذه الطفل من رؤية أبنائها إلا في القانون الاجتماعي، فالعرف الاجتماعي هو من يمنع الزوجة من رؤية أبنائها. القانون هو الموروث.
ويتطرق د. فضل للظروف النفسية التي يمر بها هذا الطفل فيقول: "هذا اللقاء ورغم أنه مهم من أجل الإشباع العاطفي إلا أنه يكسر نفس الطفل، فشعوره بأنه لا يمكن أن يرى أمه إلا ساعة أو ساعتين يشعره بالحرمان ويجعله في حالة توتر مستمر، ويزيد من ذلك نظرة أقرانه له ومعرفتهم بظروفه الشخصية. ولا يحاول تلطيف الأمور إطلاقًا، بل يسمّي الأشياء بأسمائها: "الأمر بشكل أو بآخر إهانة لهذا الفتى أو الفتاة التي تأتي أمها لتراها، ولا نريد إهانة أبنائنا، القانون يجب أن يسهل إجراءاته كي ترى هذه الأم أطفالها". إذًا، الحل بالقانون، فهل من مُشرِّع؟
إقرأ/ي أيضًا: المرأة السورية.. عبء التقاليد وأعباء الثورة