كصفحة النهر، تبدو جميلة وحزينة معًا. مدينة صغيرة يسهل التجول فيها كلها خلال نصف ساعة فقط، ودون حاجة لسيارة، ربما بالدراجة الهوائية التي تعتبر الوسيلة الأولى للحركة هناك. وهي أيضًا لم تتغير إطلاقًا، بعد نهاية الحرب مع إثيوبيا، وقبل الذهاب إلى السلام المنتظر، بل منذ عصر الاستعمار الأخير.
لم تشهد أسمرا، عاصمة إرتريا، تطورًا في عهد أسياس أفورقي، وظلت محافظة على طرازها القديم بنزعته الأوروبية
إنها مدينة أسمرا، العاصمة الإرترية، التي لم تشهد تطورًا في عهد أسياس أفورقي "بطل التحرير"، كما أراد أن يوصف على الدوام، ويبقى رئيسًا خالدًا للبلاد، مُذكّر بمعمر القذافي، بنظرته لنفسه كرمز وطني عصيّ على الرحيل.
اقرأ/ي أيضًا: إثيوبيا.. وجهة مترددة بين الازدهار والانقلابات
في المقابل، حافظت المدينة على طرازها القديم بنزعته الأوروبية؛ نسخة سمراء من روما الإيطالية حين تبدو، لكنها أيضًا عصية على السياح، كما لو أنها مدينة الحداثة السرية في أفريقيا.
المدينة الجميلة والطاردة
في مطار العاصمة الإرترية أسمرا، قليلًا ما تهبط الطائرات، لكن الأمطار لا تتوقف، فتندفع كدمع الشمع تغسل الشوارع القصيرة، مثل شارع كمشتاتو الوحيد. فيما تصطف طوال الطريق أشجار النخيل والدوم والسيارات الكلاسيكية، والباحات المضيافة بطابعها الاحتفالي.
وأسمرا، مدينة آمنة جدًا، وخالية من اللصوص والجنائيين، إلى حد أن النساء تتسكع فيها حتى مطلع الفجر دون تحرش. معظم أبنيتها من طابقين، لكل منزل حديقة تتدلى منها الورود الفاتنة.
وإن لم يسبق لك زيارة أسمرا، فلن تحصل على تأشيرة الدخول بسهولة، كون البلاد في حالة حرب مع إثيوبيا، منذ إعلان الاستقلال عنها قبل نحو عقدين من الزمان. وبالجملة، فالبلد في حالة عداء مع كافة دول الجوار.
وعلى إثر ذلك، باتت المدينة في حالة تأهب أمني لافت، ربما لا يبدو ظاهرًا، لكنه حقيقي. هذا إلى جانب العزلة المفروضة على أسمرا، بفضل السياسات الحكومية، وعمليات التجنيد الإجباري، ما دفع الآلاف من الشباب للفرار عبر الحدود السودانية.
وقد اختار معظم المثقفين والكتاب والشعراء، المَهَاجر أواطنًا بديلًا، أبرزهم الشاعر محمد مدني والروائي حجي جابر. واختار العشرات من أبنائها الإطلالة عليها بتحية الحرية، كل صباح عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وفي داخل أسمرا، ربما تفاجأ بأنك في مدينة أوروبية؛ هادئة ونظيفة إلى حد مبهر، وقد حافظت حتى اليوم على المباني الاستعمارية الإيطالية، والمقاهي المزدانة بالأنوار الصفراء، وطراز فن "الآرت ديكو" الغالب عليها.
وتبرز فيها معالم: محطة خدمة "فيات تاغلييرو" على شكل طائرة، والجامع الكبير القديم جدًا، جامع الخلفاء الراشدين، ودور السينما، إلى جانب قصر الحاكم بالقرب من دار الأوبرا العتيقة، فضلًا عن إشارات المرور التي تضيء بانتظام.
وهي كذلك، رغم الفقر الجاثم على اقتصادها، تحوز على نظام صرف صحي كامل وفعّال، دون مقارنة حتى بالخرطوم وأديس أبابا وكيجالي. إنها، باختصار، مدينة حديثة بشكل استثنائي.
تمثال الشاعر بوشكين
في منتصف حدائق أسمرا ينتصب تمثال الشاعر الروسي العظيم ألكسندر بوشكين، مصنوع من النحاس اللامع، وهو يحدق صوب فضاء الجنوب الغربي، حيث ينتمي إلى بلدين، مجده الروسي وشهرته التي طبقت الآفاق، وجذوره الإرترية.
وفي هذا ذكر الدبلوماسي الروسي ألكسي بوكالَف، الذي وضع كتاب "أفريقيا بوشكين" بعد أن عمل 10 سنوات في الصومال وإثيوبيا: "لا يمكن وضع نقطة نهاية لأي نقاش عندما يتعلق الأمر ببوشكين! فنحن، جميعًا، نستشعر صلة القربى معه، ويشغلنا كلُّ ما قيل أو كتب عنه".
ويضيف: "ولأنه حفيد جد أفريقي، فقد كان يدرك أنه لا يشبه الآخرين. إنه مميَّز، بما في ذلك صفاته الخارجية". وزاد في وصف ملامح بوشكين: "كان شديد السُّمرة، مجعَّد الشَّعر، رشيقًا، يتجلى فيه كلُّ اندفاع الدَّم الأفريقي. كانت أفريقيا حاضرة دائمًا في أعماله. وكان على اتصال مستمر مع المستشرقين والدبلوماسـيين الذين عملوا في أفريقيا، وفي الشَّرق عمومًا".
مدينة النساء
النشيد الخالد في إرتريا: "إريتريا يا جارةَ البحر، ويا منارة الجنوب"، يردده الإرتريون في بلاد المهجر بحنين جارف، من أجل عينيها الجميلتين. ويتحدث غالب السكان لغة التغرية، إلى جانب اللغة العربية والإيطالية. ومع ذلك فإن الصين هي أيضا أكبر دائن لإرتريا، وأكبر شريك تجاري لها، بعد أن بعدت الشقة سياسيًا بين أسمرا وروما خلال العقود الأخيرة.
ولعل أكثر ما يثير الغرابة، قلة السكان، واختفاء الرجال، إذ يندر أن تراهم بأعداد كبيرة، خاصة فئة الشباب، هنا نقاش أخر يتعلق بالوضع القائم للتجنيد الإجباري الطويل والصارم. وفي المقابل تنتشر النساء بكثافة في أماكن العمل، بما في ذلك ديوان الدولة وجهاز التجنيد الإجباري، بما يوحي بأنها مدينة للنساء.
المدينة ذات البعد الواحد
يبدو لافتًا منظر المهن الفقيرة التي تدر دخلًا قليلًا على أصحابها، مع ازدهار صناعة المنسوجات والأحذية الجلدية. وتشتهر المدينة كمركز لدباغة الجلود، وتجابه حاليًا معضلة ضيق المساحة، إلى جانب تآكل التربة، والإفراط في التخلص من الأشجار، عطفًا على غياب الرأي الآخر، الممثل في الصحف والقنوات الفضائية المستقلة.
والصحيفة الوحيدة التي تصدر باللغتين العربية والتغرية، هي "إريتريا الحديثة". كما يسيطر حزب الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة، الحاكم، على محطتي الإذاعة والتلفزيون الوحيدتين في البلاد. إنها بلاد الشارع الواحد والصحيفة الوحيدة والحزب الواحد.
مدينة الأساطير
ولدت أسمرا من وحي أسطورة محلية، تتحدث عن أربع بلدات كانت بالقرب من المدينة الحالية. كثيرًا ما تعرضت تلك البلدات للهجوم من قبل العشائر، حتى قررت نساء كل عشيرة أن تهزم عدوهم المشترك، وهو الحرب، لأجل الحفاظ على السلام في المناطق الأربعة. من هنا جاء اسم "أربات أسمرا"، أي النساء الأربعة اللواتي صنعن السلام.
ويتردد كذلك أن في هذه المدينة أنجبت بلقيس ملكة سبأ نجل النبي الملك سليمان، منليك الأول، فعندما جاء المخاض بلقيس أثناء سفرها، دلفت إلى نبع ماء يسمى "ماي بيلالي"، لا زال موجودًا حتى اليوم، لكن باسم "ماي بيلا".
ولعل طرازها الإيطالي لم يتغير قط، فظلت أشبه بالمدن القديمة، عندما وضع الديكتاتور بينيتو موسوليني خططًا رائعة لإمبراطورية رومانية ثانية في إفريقيا. وحتى اليوم ثمة مطاعم لا تتوقف عن تقديم البيتزا والمعكرونة، ومقاهي "الكابتشينو" و"اللاتيه". وقد أطلق عليها الإيطاليون بالفعل اسم "روما الصغيرة"، وكان ذلك تقريبًا بسبب حقيقة أن غالبية سكانها كانوا إيطاليين في أواخر ثلاثينات القرن الـ20.
في حين يختفي الرجال في أسمرا لأسباب التجييش والحرب، تنتشر النساء في أماكن العمل بكثافة، بما يوحي بأنها مدينة للنساء
فيما توقعت لجنة تخطيط المدن التي تأسست عام 1998، أن يصل عدد سكان أسمرا بحلول عام 2015 إلى حوالي 600 ألف نسمة، لكن التقديرات الحالية تشير إلى أن عدد المقيمين الدائمين قد يكون نصف هذا العدد فقط، أو أقل من ذلك، بسبب تجييش الشباب، واتساع رقعة الفقر والبطالة، بشكل باعث على ركوب المخاطر، وهو ما جعل أسمرا في الخاطر، مضغطة من الوجع الحنين، لا تكف ابدًا عن مناغاة الطيور والسفن وقوافل الهجرة منها وليس إليها.
اقرأ/ي أيضًا: