على بعد 30 كيلومترًا شمال مدينة مكناس، عند سفح جبل زرهون، تقع هناك مجموعة أطلال أثرية، مزينة بالفسيفساء الملونة وتماثيل الرخام والمنقوشات الرومانية على أعمدة الجدران القديمة، تجعل الزوار والسياح يحتفون بها أشد احتفاء، كلوحة معمارية تاريخية تخفي في طياتها حقبًا سحيقة في الزمن المغربي، إنها تعود إلى مدينة وليلي الرومانية (تسمى باللاتينية Volubilis)، المصنفة ضمن التراث العالمي من قبل اليونسكو.
تعتبر آثار وليلي الرومانية من أهم آثار المغرب حاليًا لما تتضمنه من فسيفساء وتماثيل رخامية ومنقوشات بديعة
عرفت المنطقة تواجدًا بشريًا على الأقل منذ حقبة العصر الحجري الحديث، قبل نحو 5000 سنة؛ حيث وجدت هناك حفريات أثرية مماثلة لتلك القطع التي وجدت في الجزيرة الإيبيرية، وبحلول القرن الثالث قبل الميلاد، كان الفينيقيون يعمرون المدينة، كما يتضح من بقايا معبد للإله البوني البعل. كانت المدينة تقع داخل مملكة موريتانيا تحت حكم يوبا الثاني، والتي ستصبح دولة تابعة للإمبراطورية الرومانية بعد سقوط قرطاج.
اقرأ/ي أيضًا: قصر الرومية بالجزائر.. قصة حب ملك أمازيغي
بحلول سنة 44 ميلادية، نمت مدينة وليلي بشكل كبير تحت حكم الرومان، وشهدت ازدهارًا وثراء، بفضل أراضيها الخصبة التي تنتج الحبوب وزيت الزيتون وامتلائها بالحيوانات البرية، ما جعلها مركز جذب لكثير من الناس، حتى أصبح يقطنها 20 ألف نسمة مع بداية القرن الثاني الميلادي.
فغدت مدينة وليلي المركز الإداري للمقاطعة الرومانية موريتانيا تينجيتانا، لكن في فترة 40-44 ميلادية، واجهت روما تمردًا في المدينة قاده أحد بطريمي بطليموس، يدعى أيدمون. بعد هذه الواقعة منح الإمبراطور الروماني سكانها صفة المواطنة وأعفى أهلها من الضرائب لمدة عشر سنوات، وأجرى عدة إصلاحات في الحكم داخلها، إذ أنشئت مركز بلديات ومجالس منتخبة وتم تعيين قضاة.
ومع ذلك، فقد ظلت مدينة وليلي مهددة بشكل مستمر بالفناء، نظرًا لأنها كانت تتموقع في الخاصرة الجنوبية للمقاطعة الرومانية الموريتانية، التي كانت تواجه هجمات متتالية من طرف القبائل البربرية المعادية، فتم إحاطة مدينة وليلي بحلقة من خمسة حصون لتعزيز دفاعاتها. لكن بحلول سنة 280 ميلادية، عرفت المقاطعة سلسلة من الانقلابات والحروب الأهلية، أضعفت السلطة في وليلي لينتهي الحكم الروماني في المنطقة للأبد، وتقع تحت سيطرة القبائل البربرية، ورغم ذلك بقيت تستوطنها جماعة مسيحية لاتينية.
اقرأ/ي أيضًا: مائدة يوغرطة.. تاريخ تونس القديم المرشح للائحة التراث العالمي
وبوصول العرب إلى المنطقة سنة 708، قطنتها قبيلة من ليبيا تدعى "عرابة"، صارت مدينة وليلي منطقة مهمة لدى الحكم الإسلامي، حتى أنها أصبحت مقرًا لإدريس بن عبد الله، مؤسس سلالة الأدارسة التي تعتبر أول دولة في المغرب، وقد تم العثور على القطع النقدية الإسلامية التي يرجع تاريخها إلى القرن الثامن على الموقع، مما يدل على وصول الإسلام في هذا الجزء من المغرب. غير أنه في القرن الحادي عشر ميلادي تم التخلي عن المدينة، ونقل مقر السلطة إلى فاس، كما تم نقل الكثير من سكانها المحليين إلى بلدة مولاي إدريس زيرهون الجديدة، التي تبعد حوالي 5 كلم عن وليلي.
يظهر من خلال الدراسات الأثرية التي تناولت بقايا وليلي، أن المدينة نسخة مصغرة للحضارة الرومانية في ذلك الوقت
تعرضت مدينة وليلي للنهب بشكل مستمر، لكن رغم ذلك ظلت بناياتها سليمة إلى حد كبير، حتى دمرها زلزال في منتصف القرن الثامن عشر، ليترك بها بقايا أطلال بالية غير ذات أهمية، ولم تسترجع المدينة الأثرية بريقها إلا مع فترة الاحتلال الفرنسي للمغرب في النصف الأول من القرن العشرين، حيث انكب عليها الباحثون الأجانب لدراسة آثارها وكشف حفرياتها المدفونة، فضلًا عن ترميم أطلالها المنهارة.
ويظهر من خلال الدراسات الأثرية التي تناولت بقايا مدينة وليلي، أن وليلي تمثل نسخة مصغرة للحضارة الرومانية في ذلك الوقت، إذ كانت تضم منازل فخمة على الطريقة الرومانية، ومرافق عمومية من حمامات ودكاكين ومخابز ومعاصر زيت الزيتون وكذا مطاحن الحبوب، وأيضًا سلسلة قنوات للصرف الصحي وأخرى لإمداد المنازل والحمامات العامة بالمياه، بالإضافة إلى سواقي المياه الفلاحية والأسوار الدفاعية ومعابد دينية، وحتى مساحات لسباق العربات الرومانية.
اقرأ/ي أيضًا:
من منسيات تونس.. قبر الجندي المجهول
متحف قلالة.. نافذة على الحياة في جربة