ليست لدى إيما رييس (1919 - 2003) شهرة حقيقية ككاتبة أو رسّامة، إنّما كطفلة صغيرة عاشت حياة مُرعبة. الفنّانة التشكيلية الكولومبية، أمضت ما يُقارب العشرين عامًا متنقّلةً بين الضجر والقلق والصبر. أمّا السنوات التالية، فلن تكون أفضل حالًا، ذلك أنّ رييس لن تُبارح المكان الذي اعتادت أو أُرغمت على العيش فيه، أي الهامش.
كتبت إيما ريس مذكراتها بتشجيعٍ من مواطنها الروائي غابرييل غارسيا ماركيز
اقرأ/ي أيضًا: الرسم والكتابة في تجربة أفونسو كروش
علاقتها بالرسّامة المكسيكية فريدا كالو، ودييغو ريفيرا وغيرهما، لن تُزيحها عن الهامش، أو تزلّل العقبات نحو المتن. ولكنّ علاقة الصداقة التي جمعتها بمواطنها غابرييل غارسيا ماركيز، ستصنع الفارق، وتقلب حياتها رأسًا على عقب، وإن بعد وفاتها بعقدٍ من الزمن، أي بعد أن تُنشر مذكّراتها التي دوّنتها بتشجيعٍ من مؤلّف "خريف البطريرك".
باستثناء مذكّراتها الصادرة عام 2012 تحت عنوان "بريد الذكريات" والمنقولة أخيرًا إلى اللغة العربية عن "دار التنوير" ترجمة مارك جمال؛ لم تكتب رييس شيئًا جديرًا بالذكر، أو ذا قيمة. استعادتها لطفولةٍ اشتبكت معها أكثر مما عاشتها، ستكشف أنّ جهلها بالكتابة والقراءة كان السبب وراء إقبالها على الكتابة التي لم تُطاوعها إلّا في كتابة سيرتها التي سنقع فيها على حياة قاتمة، يكاد لا يدخلها الضوء إلّا لمامًا، وفيما ندر. تستعيدها إيما رييس من خلال الرسائل التي تؤمن بأنّها تنطوي على فنّ السيرة.
وضعت رييس في مذكّراتها سيرة مُجتزأة. أخذت مما عاشته وخبرته ما تراهُ صالحًا للكتابة فقط، وإذ بالمذكّرات لا تجتاز حدود العقدين الأول والثاني من حياة الرسّامة الكولومبية، تمامًا كما لو أنّ سيرة الإنسان، ليست سوى رحلته مع الألم، وكل ما عداه، لا يُساوي فلسًا واحدًا.
كأنّ الألم وحدهُ لا يُحدّد قيمة الإنسان، وإنّما يُعبِّد له الطريق لاكتشاف قيمته. انتقاء رييس لأحداثٍ مُعيّنة من حياتها، وضمن فترة زمنية مُحدّدة، جعل فعل أو ممارسة الكتابة عندها أقرب إلى محاولة للتخلّص مما يؤرّقها، أو طرد حياة قديمة عاشتها كابنة غير شرعية، تجهل هوية والديها، ولا تعرف إن كانت ماريّا، المرأة التي كانت تتشارك معها الإقامة في غرفةٍ صغيرة وسط حيٍّ بائس، لا نوافذ له، ولا ماء فيه؛ أمّها أم مربّيتها فقط.
لعب المكان بمختلف أشكاله، منزل، غرفة، قرية، مدينة؛ دورًا كبيرًا في صياغة حياة رييس. الغرفة الصغيرة التي تبدو، حينما تصفها، بحجم راحة الكف، والتي وجدت نفسها فيها، تتشاركها مع شقيقتها وماريّا وطفل صغير؛ كانت العتبة الأولى لمأساتها مع الأمكنة. مأساة ستظلّ مرافقة لها حتّى تبلغ التاسعة عشر من العمر. قبل ذلك، كانت الراوية ضحية الأمكنة. انتقالها مع أسرتها المركّبة نحو أمكنةِ أرحب وأوسع لن يُغيّر من واقع الأمر شيئًا. كما أنّه لن يطرد صورة المكان الأول، الغرفة الصغيرة، من ذاكرتها. والشّعور بأنّ الأمكنةٍ نسخة جديدة من تلك الغرفة، ولعلّ الفارق الوحيد هو أنّ المساحة أكبر فقط، أما الأجواء والمناخات، فلا تزال ثابتة ولا تتغيّر.
وضعت إيما رييس في مذكّراتها سيرة مُجتزأة. أخذت مما عاشته وخبرته ما تراهُ صالحًا للكتابة فقط
مأساة إيما ريس مع الأمكنة كانت بسبب الأبواب الموصدة: باب الغرفة التي توصده ماريّا عليها، فتغرق الغرفة بالعتمة. باب المنازل الكبيرة التي انتقلت إليها فيما بعد. وأخيرًا باب الدير الذي كان أضخم باب تراه، تمامًا كما كان الباب الذي ستفتحهُ نحو العالم، بعد أن قرّرت هجر الحياة المرعبة التي عاشتها في الدير لسنواتٍ طويلة، نحو حياة تحدّدها بنفسها، بعيدًا عن الراهبات وغيرهنّ اللواتي كدن يرسمن مصيرها، شأنّها شأن بقية الفتيات في الدير الذي لا يُميّز بين فتاة من عائلة ثرية وأخرى من عائلة متواضعة، وفتاة ذات أصل ونسب وأخرى لا تملك مما ذكرناه شيئًا. وإنّما بين راهبةٍ ثرية وأخرى فقيرة، مانحًا الامتياز للشريحة الأولى، على أساس الثراء والطبقة، لا مدى الإيمان والتديّن.
اقرأ/ي أيضًا: 7 أدباء عرب جمعوا بين الكتابة والرسم
تروي الفنّانة التشكيلية إذًا الجزء الأكثر ألمًا ممّا اختبرته وعاشته، جزءًا يختلط فيه الأسى بالحزن والقلق والخوف، تمامًا كما يختلط الصبر بالصمت. ستتعامل إيما رييس مع كلّ حدثٍ على أنّه مأساة، تواجهها بالصمت؛ تعنيفها من قبل ماريا التي ميّزت شقيقتها عنها، وأحبتها أكثر منها. تخلّي الأخيرة عنها في محطّة القطارات. وأخيرًا حياتها في الدير. ثلاثة محطّات ستصنع النسخة الأخيرة من شخصيتها التي ستكتب بعد زمنٍ طويل سيرتها، حيث تروي وقائع يومية خشنة، وتترك ما يعد شوائب داخل النص أو الحكاية على حاله. وإذ بها تؤسّس ما يمكن أن نصفه بتاريخٍ موازٍ لتاريخ الحقبة التي عاشت في إطارها، بكلّ تحوّلاتها التي كانت تعبّر عنها بلقطاتٍ تنطوي على مواقف احتجاجية، لم تكن تعرف رييس كيف تعبّر عنها، لأنّها لم تتعلّم كيف يمكن للمرء أن يحتج.
اقرأ/ي أيضًا: