قالت المتحدثة باسم منظمة "أوكسفام" في المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عقد في دافوس مطلع العام الجاري أن شركات دواجن في أمريكا تمنع النساء من الذهاب إلى الحمامات وتجبرهن على ارتداء الحفاضات! وفي متابعة الخبر تبين أن موقع Vice الأمريكي كشف في العام 2016 أن هذه الشركات تجبر عمالها على ارتداء الحفاضات وتمنعهم من الذهاب إلى الحمام نظرًا لازدياد إقبال المواطن الأمريكي على شراء الدواجن، الأمر الذي يقتضي السرعة في العمل وعدم السماح بتضييع الوقت حتى ولو كان ذلك من أجل الذهاب إلى الحمام. وجاء ذلك، أيضًا، في تقرير "أوكسفام" العام 2018 وقالت فيه إن "العدالة تقف مع الشركات".
شركات دواجن في أمريكا تمنع النساء من الذهاب إلى الحمامات وتجبرهن على ارتداء الحفاضات!
عرض التقرير عن حوادث اغتصاب شنيعة تحدث في كثير من الشركات، وثمة مقايضات بين الجنس والعمل: إما الحصول على عمل أو البقاء في العمل مقابل الجنس أو لا عمل. يحدث هذا في شركات أوروبية وأمريكية وليس فقط في دول العالم "المتخلف". فكيف عبّرت الحركات النسوية على مدار العالم عن هذه الانتهاكات، وخاصة تلك الفضيحة العلنية التي تنطوي على عبودية وهي إرغام النساء على ارتداء الحفاضات (بامبرز، كما عبر أحد العمال في إحدى شركات الدواجن).
اقرأ/ي أيضًا: سياسات الهوية.. حتى في الحروب
من المعروف أن الحركة النسوية مرت بثلاث مراحل، يسميها أصحابها بالموجات.
الموجة الأولى بدأت في نهاية القرن التاسع عشر حتى بدايات القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي الحركة المعروفة بـ حركة تحرير المرأة، وطالبت بحق المرأة بالتصويت وبتعليم أفضل وإلغاء التمييز على أساس الجنس، وكان المبدأ الأساس لها هو المساواة.
الموجة الثانية بدأت منذ ستينات القرن العشرين وبلغت ذروتها في ثمانيناته، واتجهت إلى المجتمع عبر نشر الوعي والمطالبة بالمساواة في الحقوق، ودعت إلى ثورات شعبیة للتأثیر في الوعي وتغییر الوضع القائم بالنسبة للمجتمع بما فیه المرأة، وكان مبدأها الأساسي: الاختلاف بین الجنسین، فقد رأت أن ثمة اختلافات بين المرأة الرجل وقد أوّلتها لصالح المرأة. وقد نشأت انطلاقًا مما اعتبرته مما اعتبرته "عدم كفایة الموجة الأولى".
الموجة الثالثة هي الأكثر انتشارًا وهي المقصودة عند كل حديث عن النسوية منذ تسعينات القرن العشرين حتى الآن. فقد ذهبت إلى تفسیر الجندر والجنسانیة خارج ثنائیة: ذكر/ أنثى.. ودعت إلى تفعیل دور النساء ودراستهن في العالم كله ولیس في المركز "الأبیض" كما تسمیه، وتقصد به المركز الأوروبي والأمریكي، فقد نشأت بالتوازي مع تیار ما بعد الحداثة، أو نشأت ضمنه وفق بعض الدراسات.
هناك من يعتبر أيضًا أن ثمة موجة رابعة للنسوية هي نسوية إلكترونية، تعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي لنشر أفكارها المتمثلة بالتحرش الجنسي والعنف ضد المرأة والاغتصاب... وقد بدأت منذ العام 2012.
يمكن القول إن الموجة الرابعة هي استمرار للثالثة من حيث أن أفكارها هي ذات الأفكار التي أطلقتها الموجة الثالثة، وأن استخدام المنصات الإلكترونية لا يعطيها ميزة الاستقلال، من حيث أن هذه المنصات متاحة للجميع ويستخدمها الجميع.
ضمن تطورات الفكر النسوي وحركاته وضمن سياسات المراكز الرأسمالية في العالم تم تغييب الموجة الأولى: حركة تحرير المرأة. وتم تجاوز الموجة الثانية من حيث أن لا اختلاف بين النساء والرجال يمنح المرأة صفات أعلى من الرجل وأفضلية عليه. فبقيت الموجة الثالثة (والرابعة) الأكثر انتشارًا وصاحبة الصوت الأعلى، وهي التي تنصب عليها هذه المقالة.
مشكلة النسوية أنها تصفق لكل تحرك يقدّم على أنه مناصر للمرأة دون التفكير بالخلفيات المتخفية وراءه
الحركة العامة للرأسمالية تتجه إلى تحييد المطالبات والاحتجاجات التي يمكن أن تطال بنيتها أو يمكن أن تمس الجدران العالية من الحماية التي أشادتها حول نظامها، ولأجل ذلك لم تزل تحاول تمييع التناقضات الاجتماعية وتغيير الخصوم الاجتماعيين وخلق بوصلة جديدة تتحكم بحركة الناس، فكانت أن أبرزت إلى الواجهة سياسات الهوية ورعتها وتبنّتها، وصار لها أن تتحكم فيها عبر منظمات مجتمع مدني، وعبر المنصات الإلكترونية وغيرها... النسوية كانت إحدى أقوى الوسائل في تنمية (وربما خلق) سياسات الهوية. فغابت حقوق المرأة العاملة واستغلال النساء في أعمال متنوعة خارج إطار نقابي أو مهني يمكن أن يساعدهن في رفع العسف عنهن، غاب الوضع الاجتماعي/الاقتصادي للمرأة في تحركات النسوية، وغاب وضعهن المزري في الحروب حيث يتحملن القسط الأكثر شراسة منها... والتفتت إلى التحرك لأجل البيئة والمثلية الجنسية والتحول الجنسي وزواج وتبني المثليين لأطفال.. ونجحن في إقرار قوانين من هذا النوع. شرّع البرلمان الألماني تبني المثليين لأطفال، وألغى البرلمان الفرنسي مفهوم الأب والأم بالنسبة للمثليين المتزوجين من القانون المدرسي واستعاض عنه بـ أب 1 وأب 2 في انتهاك لمفهوم الأسرة كما عبر المحتجون على هذا القانون! فيما يبقى النساء في أنحاء واسعة من العالم بلا تمثيل في أي مكان، ويبقين يتعرضن للاضطهاد المتنوع من رب العمل ومن السياسة العامة الاضطهادية في بلدانهن، ويبقين غائبات على نحو صفيق في الحركة النسوية.
اقرأ/ي أيضًا: تطرف النسويات بين الجهل والمراهقة
مشكلة النسوية (على المستوى الحركي أكثر مما هي على المستوى النظري) أنها تصفق لكل تحرك يقدّم على أنه مناصر للمرأة دون التفكير بالخلفيات المتخفية وراءه، ولا بالحيثيات المرافقة له، ودون التفكير بالغايات التي يرمي إلى تحقيقها في الواقع، أحيانًا بوعي وهذا يتعلق بإدارة منظمات المجتمع المدني، وأحيانًا بنوع من (الدروشة) وطيبة القلب وهذا بالنسبة لكثير من النسويات والنسويين في أرجاء العالم وخاصة في البلدان التي لديها مشكلة حقيقية وظاهرة فيما يتعلق بوضع النساء.
في 2017، تم إطلاق هاشتاغ MeToo ويقصد به: أنا أيضًا تعرضت للتحرش، والتحرش المقصود يشمل: الاغتصاب، كما يشمل الدعوة إلى مقهى! وحقق أرقامًا قياسية من التفاعل ولقي تجاوبًا في الكثير من دول العالم منها دول عربية، وأسفر عن قوانين تجرّم التحرش بما فيه الدعوة إلى مقهى في حال رفضت المرأة ذلك لمرة واحدة فقط. وكذلك صدر قانون في السويد 2018 ينص على ضرورة أن تعبر المرأة صراحة عن موافقتها على ممارسة الجنس مع صديقها/حبيبها! النسويات والنسويون ومناصرو المرأة تفاعلوا بإيجابية مع الهاشتاغ دون أن يفكروا أن هدف الحملة ليس منع التحرش عمليًا، بل مزيد من الضبط والتدخل من جانب الجكومات حتى في العلاقات الحميمة (قانون السويد).
في العديد من الدول الأوروبية كفرنسا وألمانيا تحصل المرأة على راتب أقل من راتب الرجل، لكن الحركة النسوية لا تتظاهر من أجل ذلك، وقد تم الكشف عن حوادث اغتصاب مستمرة منذ 15 عامًا في الفاتيكان، ولم تتظاهر الحركة النسوية ولو شكليًا للتعبير عن الاحتجاج... بل خرجت منذ فترة قصيرة في مدينة هامبورغ الألمانية مظاهرة حاشدة لأجل حقوق المتحولات جنسيًا، ولأجل التعامل معهن بصفة قانونية.
الحقيقة أن المطالبة بتدخل القانون التي ترمي تلك الحملات إلى تحقيقه، والتي هي نوع من الضبط والمزيد من الضبط الاجتماعي، يعني أن يتم (فرض) ذلك على المجتمع حتى لو لم يوافق، الفرض يتم عبر القانون، وبه، وذلك تحت طائلة القانون!
تم الكشف عن حوادث اغتصاب مستمرة منذ 15 عامًا في الفاتيكان، ولم تتظاهر الحركة النسوية ولو شكليًا للتعبير عن الاحتجاج
في 2016، تم الكشف عن حفاضات العمال في شركات دواجن أمريكية، وفي العام 2018 نشرت أوكسفام تقريرها حول ذلك، ما يعني أنه لم يحدث أي شيء تجاه تلك الممارسة العبودية، وفي 2019 قالت ممثلة منظمة أوكسفام أن النساء في تلك الشركات يتم منعهن من الذهاب إلى الحمام، فيضطررن إلى ارتداء الحفاضات، وذلك يعني أنه، أيضًا، لم يحدث شيء! وهنا لا بد أن نسأل: أين الحركة النسوية؟ الجواب ببساطة: إنها تنفذ سياسات الهوية على أكمل وجه، أما العاملات اللواتي يرتدين الحفاضات فلهن الله! ونساء الحروب وكافة النساء المضطهدات في أماكن عملن، واللواتي لا يعملن لأنهن لم يرضخن لشروط صاحب العمل: إما العمل وإما الجنس، وباقي نساء الأرض المعذبات فلهن الله أيضًا.
اقرأ/ي أيضًا: نوال السعداوي.. الوقوف مع "رجال" الاستبداد
لا تهدف المقالة إلى الوقوف ضد المثليين والمثليات والمتحولين والمتحولات جنسيًا ولا باقي فئات المجتمعات الذين لهم مطالب خاصة، فكاتبها يؤيدهم بقوة ويدافع عنهم بحزم وصلابة.. بل تهدف إلى تذكير النسويين والنسويات بما يسمى في النقد الثقافي: الكشف عن الأنساق المخفية في النص، والبحث عنه، أيضًا، في دعوات الحركة النسوية عامة وكشفه.
اقرأ/ي أيضًا: