مسار طويل ينبعث من ثنايا الذاكرة، قناعات راسخة عمدت بالدم والشهادة تتجدد مع كل مناسبة، يخفت توهجها حينا لكن لا يغيب، تراث لا يسقط بالتقادم ويقاوم حشد المهزومين وكل من حاول القفز عليه والتنكر له، مسار السلاح لثلة من الرجال جمعهم الحلم وآمنوا أن الواقع قابل للتغير فخطوا طريقهم للخلاص من وهم أن الاحتلال قدر.
في عمر 16، نفّذ مصباح الصوري عملية هجوم بقنبلة يدوية على دورية للاحتلال في جباليا، وأصيب إصابات ولّدت شللًا جزئيًا في أعصاب اليد
مصباح الصوري سيرة تتدفق بين أزقة المخيم. هذا المقاوم العابر نحو الحلم، رافعًا شعار لا شيء مستحيل أمام البندقية تعود جذور عائلته إلى بلدة أسدود، ولد عام 1954 في مخيم المغازي بقطاع غزة. عاش طفولة مؤلمة حيث المعاناة والتشرد كحال كل الأسر الفلسطينية التي واكبت النكبة وهُجِّرت من أراضيها عنوه في عام 1948، كحال غالبية الشباب الفلسطيني كان لهزيمة 1967 وقع الصدمة عليه وبعد احتلال قطاع غزة لم يستكن فانضم لقوات التحرير الشعبية مشاركًا بالعديد من العمليات التي استهدفت قوات الاحتلال على الرغم من حداثة سنه.
اقرأ/ي أيضًا: أنيس دولة.. جريمة حرب إسرائيلية
في عمر 16، نفّذ مصباح الصوري عملية هجوم بقنبلة يدوية على دورية للاحتلال في جباليا، كان ذلك سنة 1970، أصيب في تلك العملية بوابل من الرصاص في ساقه ويده اليسرى وسببت له ذلك شللًا جزئيًا في أعصاب اليد.
اعتقل مصباح في تلك العملية وحكم عليه بالسجن المؤبد، شكّلت السجون أحد أدوات القمع للنيل من المقاومين، فكانت الزنازين في أوضاع مزرية، وأصبحت عامل ضغط على الأسرى والمعتقلين. غرف ضيقة تنعدم فيها النظافة والتهوية، طعام على قلته من أردأ الأنواع، ناهيك عمّا يتلقاه الأسرى والمعتقلون من معاملة سيئة وتنكيل يومي من قبل المحققين والسجانين.
لم يكن مصباح بعيدًا عن تلك الظروف والمعاناة اليومية لكن روح المقاومة العالية، وإيمانه بأن الغد حتمًا سيحمل سيكون مختلف فتشبث بالحلم لمواصلة الطريق، خاض معارك الجوع والإضراب على الطعام مع رفاقه للمطالبة بتحسين ظروفهم داخل المعتقل، وكعادة المحتل بإتباع سياسة نقل السجناء إلى معتقلات أخرى لكسر إضرابهم، فقامت إدارة سجن "كفاريونا" بنقل مصباح إلى سجن بئر السبع، هناك أصبح أكثر قربًا من التيار الإسلامي وانظم للجماعة الإسلامية التي كانت نواة حركة الجهاد الإسلامي، لم يهدأ مصباح ووضع صوب عينه مسألة الهروب من السجن فلم يكن في تصوره أن يقضى كامل محكوميته وراء قضبان الزنازين، كانت المحاولة الأولى في سجن بئر السبع، لكن حراس السجن اكتشفوا القضيب الذي نشر نصف قطره، ولم يكتب للعملية النجاح حدث ذلك في عام 1976، نقل بعدها إلى سجن عسقلان وبعد عملية تبادل الأسرى سنة 1983، والتي لم يدرج فيها اسمه استعاد إصراره القديم وفكر جديًا في محاولة ثانية للهرب مع إثنين من رفاقه الأسرى، فتم الإعداد لها وأخذت وقتًا طويلًا، مع بدايات عام 1985 عمل مصباح ورفاقه على تنفيذ خطتهم فصادف أن اكتشف السجانون مصباح وهو يقوم بنشر أحد قضبان الحديد فكلفه ذلك شهريين السجن الانفرادي الى أن حلت عملية تبادل أسرى جديدة.
في 19 أيار/مايو 1985، حصلت عملية تبادل للأسرى بين الجبهة الشعبية - القيادة العامة وإسرائيل، أطلق عليها عملية تبادل الجليل بموجبها خرج مصباح الصوري من سجنه الذي قضى داخله 15 عامًا، في الخارج ربط الاتصال مع الشهيد فتحي الشقاقي وانظم الى مجموعات طلائع النور أحد المسميات التي كانت ينشط تحتها حركة الجهاد الإسلامي في بداية التأسيس، وانطلق لمرحلة جديدة في مسيرته النضالية ليبدأ بتنظيم الخلايا وتدريبها وشراء السلاح والتدرب عليه مع رفاقه المقاومين، الذين نفذوا العديد من عمليات إطلاق النار ورمي القنابل اليدوية على دوريات ومواقع الاحتلال. وبعد عام بالتمام من إطلاق سراحه في 19 أيار/مايو 1986 تم اعتقال الصوري ومجموعة من المقاومين بعد مهاجمة دورية للاحتلال ليحكم عليه مرة أخرى بالسجن لمدة 30 سنة.
شكّلت السجون الإسرائيلية أحد أدوات القمع، فكانت الزنازين في أوضاع مزرية، وأصبحت عامل ضغط على الأسرى والمعتقلين
عن تلك المرحلة في السجن يتحدث أحد رفاق درب مصباح الصوري، الشيخ عبد السلام أبو السرهد عن حادثة دارت داخل السجن بين ضابط المخابرات "آفي" ومعه" دافيد ميمون" الذي كان رئيس مصلحة سجون العدو وبين مصباح خلال جولة لهم داخل السجن، نصح "آفي" "ديفيد" بضرورة الحذر من مصباح الصوري الذي حاول الهرب، فقال مصباح لدافيد: "لديك رأس، فكّر كيف ما تشاء في إمكانية منعي من الهروب من سجنكم".
اقرأ/ي أيضًا: عزمي الصغير.. شرف العسكرية الفلسطينية
نصف منشار حديد مهرب داخل رغيف خبز كانت بداية التحضير لعملية الهروب الكبير من سجن غزة المركزي، عرض مصباح الصّوري على الأسيرين عبد السّلام أبو السرهد وعماد الدين عوض شحادة خطّته التي تقضي بقص قضبان نافذة الحمام، ثم الهروب من خلالها. كان دور الاثنين المساعدةَ في قصّ القضبان، لم تكن عمليةُ قصّ القضبان سهلة، ففي الغرفة التي كان مصباح نزيلًا فيها يوجد 25 أسيرًا، جميعهم يستخدمون نفس غرفة الحمام، ما يعني أن الحمام مشغول على مدار السّاعة، أو أنه على الأقل سيضطر الأسرى لاستخدامه خمس مراتٍ يوميًا للوضوء، استعدادًا للصلاة.
بدأوا بنشر قضبان نافذة حمام زنزانتهم بشكل مدروس ومستمر دون أن يلاحظ أو يشعر أحد، خلال صلاة التراويح وأثناء آذان الفجر أحيانًا.
في ليلة 17 – 18 أيار/مايو 1987، نجح مصباح الصوري من إتمام عملية نشر القضبان فيما اختار أن يرافقه في عملية الهروب الأسرى من ذوي الأحكام العاليّة، الذين لا فرصَةَ لهم بالتحرر، أما رفيقاه فطلب منهم عدم المشاركة في الهروب، كونهما ليسا من أصحاب الأحكام العالية، وفترة سجنهما شارفت على الانتهاء.
بدأ مصباح بالخروج من النافذة الصغيرة وتبعه رفاقه ونزلوا إلى سقف تحت الغرفة بمسافة ثلاثة أمتار، ومن ثم الهبوط على الأرض على ماسورة من الحديد وتجولوا في باحة السجن وفتشوا بعض السيارات التي كانت تقف بجانبهم بحثًا عن سلاح. وخشية من اكتشاف أمرهم سارعوا بتسلق شجرة كبيرة وعالية كانت تقع بجانب أسوار السجن ومنها قفزوا إلى الخارج باتجاه الحرية، حيث كانت مجموعة من المجاهدين في انتظارهم لتأمين هروبهم وتوفير اماكن آمنة لهم. لم يكتشف السجانون عملية الهروب إلا في الصباح بعد عملية العد اليومية، فأعلنت حالة الاستنفار في السجن وشنت قوات الاحتلال عمليات تفتيش واسعة بالمنطقة المحيطة بالسجن إلا أن الآوان قد فات. مصباح الصوري، سامي الشيخ خليل، محمد الجمل، عماد الصفطاوي، خالد صالح وصالح إشتيوي كانوا أبطال عملية "الهروب الكبير" من سجن غزة المركزي، التي زلزلت الاحتلال ودفعت به لعقد محاكمة عسكرية لمدير السجن وعقابه بتهمة الإهمال.
أطلق اسم "الهروب الكبير" على عملية الهروب من سجن غزة المركزي في 1987، التي زلزلت الاحتلال ودفعت به لعقد محاكمة عسكرية لمدير السجن وعقابه بتهمة الإهمال
مرحلة جديدة من العمل المقاوم رفض خلالها مصباح الخروج من القطاع والانتقال إلى ساحة نضالية جديدة، كانت الأمور محسومةً عنده، فقد قرر البقاءَ، مواصلًا نضالَه ضدّ الاحتلال على الرغم من المضايقة الأمنية، حيث مارست أجهزة الاحتلال ضغوطاتها على عائلته من أجل إجباره على تسليم نفسه.
اقرأ/ي أيضًا: زياد الحسيني.. الفدائي الذي حكم غزة ليلًا
بعد أسبوع من عملية الهروب، تم اعتقال صالح إشتيوي، فيما قرر عماد الصفطاوي وخالد صالح الخروج من القطاع، لكن مصباح وباقي أفراد المجموعة فقد خطوا طريقهم وحاولوا بشتى الطرق التسلُّحَ وتنفيذَ عملياتٍ ضدّ الاحتلال، وبدل أن يطاردهم العدو هم طاردوه، فجسدوا هذا الشعار أيام قليلة بعد عملية الهروب الكبير، ففي 25 أيار/مايو 1987 استطاع مصباح الصوري قتل ضابط المخابرات الإسرائيلي غاليلي غروسي شرق الشجاعية بعد محاولة لأسره، في 2 آب/أغسطس 1987 وفي وضح النهار بقلب شارع الوحدة الرئيسي بمدينة غزة، قرب موقف سيارات جباليا ترجل سامي خليل أحد أبطال المجموعة وأطلق النار بشكل مباشر على قائد الشرطة العسكرية الإسرائيلية في غزة مسؤول معتقل أنصار 2 سيئ السمعة العقيد "رون طال" وأرداه قتيلًا، وقد شكلت العملية حالة من صدمة في الأوساط العسكرية الاسرائيلية والتي اعتبرها إسحق رابين "عملية استثنائية وسيكون الرد عليها استثنائيًا".
كثفت المخابرات الإسرائيلية من عملية متابعة وتعقب مصباح وأفراد مجموعته، وكثفت من عمليات المداهمة والتفتيش اليومي في محاولة لاعتقال المجموعة، وفي 01 تشرين الأول/أكتوبر 1987 وقع اشتباك مسلح أمام حاجز لجيش الاحتلال في منطقة جحر الديك، قرب مخيم البريج، بناء على إخبارية من أحد العملاء، حيث كمن جيش ومخابرات الاحتلال لسيارة كان يستقلها ثلاثة من المجاهدين، أعلن عن استشهاد اثنين من الشباب وهم محمد عليان ومحمد أبو عبيد، في حين تكتمت على اسم الشاب الثالث ولم تقدم تفاصيل عن مصيره.
بعد أسبوع من الكمين، وفي 6 تشرين الأول/أكتوبر 1987، استقل كل من سامي الشيخ خليل ومحمد الجمل يرافقهم أحمد حلس وزهدي قريقع سيارة من داخل حي الشجاعية، واتجه الأربعة برفقه عدد من المجاهدين كانوا على متن سيارة أخرى لتنفيذ عملية ضد إحدى نقاط العسكرية لقوات الاحتلال، وأثناء تحركهم اتضح أن عيون المخابرات الإسرائيلية كانت تراقبهم، فاندلع اشتباك بين أفراد المجموعة وعناصر المخابرات الإسرائيلية، وأدى الى مقتل أحد ضباط المخابرات الإسرائيليين وإصابة آخرين واستشهاد أفراد المجموعة.
في 11 تشرين الأول/أكتوبر 1987، أعلنت سلطات الاحتلال أن معركة الشجاعية لها علاقة بكمين مخيم البريج، وأعلنت عن اسم الشهيد الثالث الذي لم يكن سوى مصباح الصوري، حيث تواردت المعلومات عن إصابته في اشتباك البريج واعتقاله حيًّا، حيث نقل لأقبية المخابرات وتعرض لتحقيق قاسٍ وتعذيب شديد ومن ثم تمت تصفيته، وتم التكتم على مصيره إلى حين الوصول إلى باقي أفراد المجموعة، فقد اعتبر الاعلام الصهيوني أن هذه الخلية المسؤولة عن الهروب الكبير من سجن غزة المركزي هي أخطر خلية واجهت المخابرات الإسرائيلية منذ عام 1967.
اعتبر الاعلام الصهيوني أن هذه الخلية المسؤولة عن الهروب الكبير من سجن غزة المركزي هي أخطر خلية واجهت المخابرات الإسرائيلية منذ عام 1967
لم يتوقف الإجرام الإسرائيلي عند تصفية أسير جريح، بل قامت قوات الاحتلال بنسف منزل أسرة الشهيد مصباح الصوري، والتنكيل بأفراد عائلته ومنعهم من المشاركة في جنازته.
اقرأ/ي أيضًا: عبد الرحيم جابر.. قصة فدائي
هنا حيث التاريخ يشكل امتدادًا وحضورًا راسخًا، كتب فصل من سيرة هؤلاء الابطال، خندقهم البندقية للانطلاق نحو الأمل، كان لاستشهاد مصباح الصوري وأفراد مجموعته أولى الإرهاصات التي سبقت انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى، انتفاضة الحجارة، وشكّل أبطال عملية الهروب الكبير وشهداء معركة الشجاعية ظاهرة قابلة للتكرار، وأسّسوا مسارًا شعاره التحدي والعنفوان رافضين الهزيمة والانكسار، لتبقى حكايتهم محفورة في الذاكرة الفلسطينية.
اقرأ/ي أيضًا: