21-فبراير-2017

يقضي معظم المتقاعدين أوقاتهم على كراسي المقاهي في مصر (ستيوارت فريدمان/Getty)

"بلوغ سن التقاعد".. هكذا يمكنك أن تقرأ العبارة بالفصحى في الأوراق الرسمية في مصر، لتترجمها على الفور إلى نظيرتها بالمحكية المصرية "الطلوع على المعاش". في كل الأحوال، تعني العبارة الكثير: الوصول لسن الستين، سن اليأس الوظيفي، الذي يعني لدى "الحكومة" أنك أدّيت واجبك على أكمل وجه وعليك أن "ترتاح" مُفسحًا الطريق لآخرين يأتون من بعدك في سلم دولة البيروقراطية العتيدة، كما تعني العبارة عند العديدين أنهم تحولوا إلى كمٍّ مهمَل، عاطل بشكل أو بآخر. ورغم أن أي موظف في هذه الدنيا ينتظر كثيرًا أن يرتاح من إزعاج العمل وعنائه ومشاكله، إلا أن اللحظة حين تجيء بالنسبة لبعض الموظفين تكون صعبة: مشهد وداع مليء بالشجن لعمر من العمل والرفقة، يكون بطله الوحيد مرارة حلوة غامضة تستوضح الأيام القادمة.

"بلوغ سن التقاعد" في مصر، تعني العبارة الكثير: الوصول لسن اليأس الوظيفي، أن العديدين تحولوا إلى كمٍّ مهمَل، عاطل بشكل أو بآخر

في أكثر من فيلم سينمائي مصري، يتكرّر مشهد نمطي بعينه: الموظف الكبير الذي أُحيل إلى التقاعد، ينزل في موعده الصباحي المعتاد، يلقي بتحيته على البواب وبعض الجيران، يركب السيارة التي ستقله إلى عمله ويقول للسائق "اطلع يا أسطى"، قبل أن يكتشف الجميع أن ما يحدث ليس أكثر من خدعة صنعها الرجل لكي يوهم الناس أنه لا يزال "في الخدمة"، ويملك سلطة ومكانة. وبعيدًا عما ينطوي عليه مثل هذا المشهد من مبالغات الأفلام، فإنه يؤشر على حالة من الفصام يعيشها من خرج على المعاش، وعدم استيعابه لما حدث. من ناحية أخرى، فإن مرحلة "ما بعد المعاش" هي فترة انتقالية أخطر ما فيها الإحساس بالفراغ وانتفاء الأهمية وازدياد الشعور بالشيخوخة، مما يُحدث تغيرات نفسية كبيرة، قد تصل بالبعض إلى الدخول في دائرة الاكتئاب.

اقرأ/ي أيضًا: البحث عن "دوبلير" جديد للدولة في جامعات مصر

"التليفون اللي ماكانش بيبطّل رنّ، بقى أخرس"، هذه هي الجملة التي يواجه بها نفسه، محمد فهمي، وكيل أول وزارة على المعاش، مُلخّصًا الفرق بين حياته قبل المعاش وبعده، ويقول: "أقضي وقتي حاليًا على أحد المقاهي مع أصدقاء من نفس العمر، ونفعل مثلما كنا نشاهد في الأفلام: نتذكر الماضي ونلعب الطاولة والشطرنج ونتبادل الحكايات، حتى أننا أسمينا أحاديثنا المشتركة "حكاوي القهاوي" على اسم ذلك البرنامج التلفزيوني القديم الذي كانت تقدمه المذيعة سامية الأتربي على القناة الثانية المصرية".

الحاج أحمد فضل (مدرس رياضيات سابق) يقضي وقته عقب نهاية مشوار العمل الحكومي في العبادة والذهاب إلى المسجد المجاور لمنزله وقراءة القرآن وفي زيارة ابنه الوحيد بين الحين والآخر، ويعتبر نفسه واحدًا من الموظفين الذين شعروا بسعادة وراحة الضمير لإحساسه بإنهاء رسالته على أكمل وجه تجاه ابنه وتلاميذه، فيقول في حديثه لـ"ألترا صوت": "حين تساهم في تخريج دفعات متتالية من التلاميذ على مدى أكثر من 30 عامًا، يكون ذلك مدعاة للفخر ووسيلة عزاء حين تخرج على المعاش"، مضيفًا أنه بعد التقاعد أصبح يجد لديه الوقت الكافي لتوطيد علاقته بالله والتعرّف أكثر إلى السنة النبوية الشريفة. على النقيض منه، يعاني محمد عبد الرؤوف (سائق قطار على المعاش) الذي قضى رحلة طويلة مع طرقات السكك الحديدية، من جحود أبنائه الذين لا يساعدون في تكاليف علاجه إلا بالقليل.

يوميات ثقيلة يعيشها المتقاعدون في مصر، وعوز شديد يعانون منه في ظل الغلاء المعيشي

العميد فهيم معروف، الذي كانت "تقوم الدنيا ولا تقعد" عندما يرتدي الزي الميري ويمشي في الشارع، ولا يلقى سوى تبجيل الناس واحترامهم. "اتفضل يا سعادة الباشا" و"أوامرك يا افندم" كان يسمعهما في اليوم عشرات المرات، إلى أن أُحيل لسن التقاعد فأصبح أسير المرض النفسي والتردد على عيادات متخصصة نتيجة شعوره بالوحدة، وينصح العميد السابق بشرطة المرور من هم في موقع المسؤولية ويقول: "يا ريت ما حدش يتغرّ بمنصبه".

أما عمر حمدي فقد استطاع بشطارته وخبرته الطويلة في العمل التجاري في إحدى الشركات التجارية الكبرى، كمحاسب ومشرف في نفس الوقت، أن يستثمر هذه الخبرة بعد المعاش في إقامة مشروع تجاري، فافتتح مخزنًا لتوريد المواد الغذائية، ولم يعد لديه من أوقات الفراغ إلا النادر منها بل وأقل مما كان يعمل في شركته. نموذج ثان لاستثمار الوقت هو خالد عثمان والذي التحق بأحد نوادي التأهيل والتدريب لكبار السن والذي يضمّ رياضات كالسباحة والجري "اللذين يقتلان وقت الفراغ" كما يؤكد عثمان، كما أمكنه الالتحاق بالنادي من التعرف على أصدقاء مماثلين له يقضي معهم وقته، وفي فترة المساء يشارك متطوعًا في إحدى الجمعيات الخيرية لخدمة أهالي المنطقة التي يسكنها في ضواحي القاهرة.

حياة معطلة

تصف الدكتورة رباب كريم (الباحثة بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية) وصول الفرد لسن التقاعد بأنه صدمة قوية ويمثّل أزمة بالنسبة لكثيرين، وتُرجع ذلك إلى تأثيره القوي على نفسية الفرد وروتينه اليومي خاصة الرجال، وتؤكد على أضرارها وانعكاساتها السيئة على حالته الصحية أو النفسية أو المادية وكذلك حالته الأسرية وعلاقاته مع الآخرين. فالإنسان عندما يصل للستين يكون قد تطور في حياته العملية ووصل إلى أعلى الدرجات الوظيفية، وبالتالي تكون له القدرة على التفكير والتخطيط في العمل وله السلطة لقيادة الآخرين. أيضًا يكون العمل قد أصبح جزءًا أساسيًا في حياته ويكون هو المستوعب لأكثر فترة من وقته وتفكيره، "فالرجل المصري يقضي 75% من وقته واهتمامه وتفكيره في العمل حتى وإن لم يكن متميزًا في القيام به"، بحسب الباحثة، لأن العمل يعطيه الثقة في نفسه.

أما نظرة المجتمع للفرد بعد التقاعد فهي المشكلة في نظر كريم، ففجأة يجد الموظف نفسه بلا اهتمام ويحطم الفراغ حياته لأنه يفكر في سلبيات الحياة وتطورات حالته الصحية من أصغر الأعراض، كما ينعكس هذا الفراغ في علاقاته بالأسرة تحديدًا لأنه يجدها المجموعة الوحيدة التي أمامه ويتطلب ذلك التفاعل مع كل صغيرة وكبيرة تحدث أمامه. أما عن اختلاف الوضع المادي عما كان في وضع العمل، فتقول الدكتورة إن الفرق المادي بين العمل والمعاش يؤدي إلى هزة في الاستقرار الاقتصادي للأسرة لأن البعض يعتقد أن المسؤوليات تقل في سن المعاش وهذا غير صحيح، قد يحتاج المتقاعد لعلاج أمراض لديه بحكم سِنّه وكذلك مساعدة الأبناء للزواج والتعليم.

سن التقاعد يشكل صدمة قوية ويمثّل أزمة بالنسبة لكثيرين، لتأثيره القوي على نفسية الفرد وروتينه اليومي خاصة الرجال في مصر

وتشير الدكتورة رباب كريم إلى أهمية التخطيط لما بعد "المعاش"، والذي قد يكون مفيدًا في كثير من المهن ذات الامتداد بعد المعاش، فالمهندس من الممكن أن يؤسس مكتبًا خاصًا به وكذلك الطبيب، أما من الناحية الاجتماعية فتقترح الدكتورة أن يشغل المرء نفسه بممارسة أحد الأنشطة التي تساعد في تمرير الوقت والاستفادة منه في الوقت ذاته، كما تقترح عمل مكاتب لكبار السن تخصص لهم الأعمال التي تتناسب مع سنهم والتي لا تحتاج لمجهود بقدر ما تحتاج لخبرة، وهذه المكاتب ستعطي جزءًا من الأمل لهؤلاء وتستفيد في تعليم الشباب الجديد الخبرات السابقة، وفقًا للدكتورة.

أما الدكتور جمال فؤاد، أستاذ علم الاجتماع بجامعة المنوفية، فيركز على أهمية العمل كقيمة تُشعر الفرد بأهميته وفائدته وباحتياج المجتمع إليه وكنشاط يشغل الموظف أغلب وقته في تأديته، وهو ما يتغير تمامًا بعد وصوله للمعاش. يؤكد الدكتور فؤاد ما ذهبت إليه الدكتورة من كون "المعاش" لا يأتي فجأة ولا بد من التحضير له قبلها بفترة بحيث يكون هناك تخطيط وتوجيه الاهتمام نحو الأشياء التي لم تُمارس قبل المعاش وممارستها بعده، كما أن العمل التطوعي يعتبر اختيارًا مناسبًا بالنسبة لمن يمتلك الخبرة والوقت ويسعى لمساعدة الآخرين. من المهم أيضًا البحث عن هواية معينة وتنميتها والحفاظ على الصحة وممارسة الرياضة التي تتناسب مع العمر وتعميق القراءة في بعض الجوانب المفقودة والاهتمام بالأسرة بشكل أعمق. أما عن تغيير نظرة المجتمع لكونه متقاعدًا فهذه النظرة، بحسب فؤاد، تتوقف على الشخص ذاته وعلاقته بهم وعما إذا كانت مرتبطة بالمنصب من عدمه، فعلاقات الشخص الجيدة والصحبة مع الأسرة والجيران والمجتمع حوله كلها أسباب تساهم في المقدار الذي يطرأ على علاقة الموظف المتقاعد بمحيطه الاجتماعي.

اقرأ/ي أيضًا: المجتمع المدني المصري.. تركة للريح

في أحد مشاهد الفيلم الأمريكي "بيردمان" لغونزالس إيناريتو، تقول ابنة البطل لوالدها، الممثل السابق صاحب النجاحات السابقة في تجسيد دور "الرجل الطائر" في إحدى السلاسل الفيلمية، إنه لم يعد مهمًا وعليه أن يفهم ذلك، في محاولة منها لإثنائه عن رغبته الدؤوبة في العودة للأضواء، لكن الممثل يصنع طريق نجاحه الخاص والجديد من خلال التمثيل على مسارح برودواي.

وبنفس أسلوب الممثل الذي "خرج على المعاش" في الفيلم الأمريكي، ربما يجد الكلام والنصائح السابقة تفهمًا من جانب بعض الموظفين الذين أُحيلوا إلى التقاعد، غير أن البعض الآخر سيظل يحاول التمسّك بآخر أيام "الخدمة" من أجل الحفاظ على الشهرة المتوارية والروتين الغائب والأهمية المتضائلة والسنوات المارة، أشخاص يتعاملون مع الواقع الجديد على مضض وبكثير من الحنين للأيام الماضية.

اقرأ/ي أيضًا:

الإعلام المصري.. خارطة مشبوهة

العشوائيات في مصر.. أرقام ومعلومات