يبدو واقع النشر في مصر في الآونة الأخيرة فوضويًا لدرجة مربكة للرائي من بعيد، كتبٌ تنتشر وتتصدر المبيعات من دور نشر "مجهولة" نسبيًا بالنسبة للوسط الثقافي، في مقابل أخرى لكتاب مكرسين وفي دور مخضرمة لا تحظى بنفس الانتشار، بغض النظر عن "النوع" فسوق الكتاب في مصر لا يخضع لأية حسابات منطقية، ففي الوقت الذي تكاد تختفي طبعات أعمال نجيب محفوظ، هناك عناوين أخرى تحظى باهتمام الصناع "الناشرين" لاعتبارات قد تكون في معظمها شخصية.
رغم كل تحديات النشر في مصر، ظهرت دور نشر "شابة" في عمرها أو يديرها ناشرون شباب واعون بما في الساحة من عقبات
على الناحية الأخرى، التحديات السوقية للناشرين ما بين مطابع لا تلتزم بمواعيدها، وأسعار ورق وأحبار غير مستثناة من رسوم الجمارك الكبيرة، توزيع لا يتناسب مع حجم المطروح من عناوين، فما زال التركيز على التواجد القاهري ثم السكندري، ثم يقل الاهتمام كلما ابتعدت المنافذ عن المركز.
وسط هذه التحديات هناك دور نشر "شابة" في عمرها بالسوق أو يديرها ناشرون شباب، ظهروا على الساحة في العقد الأخير واعين بما في الساحة من عقبات، لكن آملين بفتح سكك جديدة للمدعين دون قيود النشر المؤسسي الخاص بالدولة، أو دور النشر القديمة بما فيها من تكلسات في الذائقة وفرض أسماء بعينها بحجة "السياسة التحريرية العامة".
الناشر محمد البعلي، صاحب ومدير دار صفصافة، يتحدث عن داره: "تجربة صفصافة مع النشر مرت بعدة مراحل؛ الأولى كانت عام 2009 وهي الانطلاقة، وكان بها عدة شركاء وعدد من الأصدقاء الداعمين ما ساعد على أن تكون الانطلاقة قوية وذات صدى إعلامي مميز، ثم انفضت الشراكة وتفرق الشركاء لأسباب مختلفة وبقيت مع صفصافة وحدي وتلا ذلك بقليل انطلاقة ثورة يناير وتعرضت الدار لهزات خلال تلك الفترة بسبب مشاكل التحول الإداري والوضع العام في البلاد.. وانخفض إنتاج الدار من الكتب، كما وبالتالي اهتز الوضع المالي لها، واستمرت هذه الفترة المتقلبة حتى عام 2013؛ ومنذ بداية ذلك العام بدأت صفصافة مرحلة جديدة، حيث خططنا لتحويل هوية الشركة من دار نشر فقط إلى موسسة تعمل في الثقافة بشكل عام؛ فتقدم الاستشارات الثقافية وتقود المشاريع وتدعم المبادرات الشابة وتنظم مهرجانات ثقافية؛ واستثمرنا منذ ذلك الوقت بقوة في عدة مشاريع منها مهرجان "أسبوع الكوميكس في مصر" الذي تقام دورته الثانية خلال تشرين الثاني/نوفمبر المقبل ومهرجان القاهرة الأدبي الذي شارك في دورته الأولى شباط/فبراير 2015 أدباء من ثلاث عشرة دولة بما فيهم الكاتب الحاصل على نوبل أورهان باموق.. واتجهنا للترجمة بشكل كبير فأصبح أكثر من ثلث العناوين التي نصدرها كتب مترجمة تتنوع بين الأدب العالمي المعاصر والكلاسيكيات والفكر الأوروبي".
ويضيف البعلي: "كما كان من العلامات المميزة خلال الفترة الأخيرة من حياة الدار إصدارنا لرواية الحريم للصديق حمدي الجزار، التي تلقاها النقاد بأحسن صورة وحظيت بقراءات عديدة كما أنها فازت بجائزة أحسن رواية في معرض الكتاب 2015، كما تعاقدت دار نشر فرنسية موخرًا على ترجمتها كنتيجة للوجود المتزايد لصفصافة في ساحة النشر الدولية".
وعن ظروف البدايات ومشكلة الرقابة الاجتماعية يتحدث الناشر أحمد سعيد مؤسس دار الربيع العربي: "ارتبط باسمي منذ البدايات وصف "ناشر الضلالات"، منذ أصدرتُ "آيات علمانية" بتقديم د. خالد منتصر، و"ملك وامرأة وإله" لنوال السعداوي. أطلق هذا اللقب أحد الناشرين الزملاء، وقد كان عليَّ أن أتفهَّم لماذا يعتبرني الناشرون الزملاء ناشرًا للضلالات، فإصداراتنا تأخذ طابعًا تنويريًّا وتعبِّر عن توجُّه مختلف.
البداية كانت في الرابع والعشرين من كانون الثاني/يناير 2011، ليس للأحداث السياسية التي اشتعلت بعد ساعات، وإنما لإنشاء دار الربيع العربي للنشر والتوزيع، والتي كان اسمها "عربيّ" فقط دون الربيع.. كانت أجواء الثورة بحق مُلهمةً، لكني بعد انتهاء اعتصام محمد محمود، شهر تشرين الثاني/نوفمبر، كنت قد قررتُ العودة لمشروعاتي، كان حُلم إقامة دار نشر محترمة تقدم محتوًى تنويريًّا، وكانت دار الربيع العربي في أواخر 2011".
أحمد سعيد: القارئ العربي يستحق منَّا ألا تقف طموحاتنا عند حدٍّ معين
ويضيف سعيد عن طموحاته في النشر: "لا حدَّ لها! فالقارئ العربي يستحق منَّا ألا تقف طموحاتنا عند حدٍّ معين، ليس قبل أن يحصل كل قارئ في الوطن العربي على الكتب التي لا تخدعه بل تثقّفه أكثر، بآليات سريعة وموفرة غير مُجهدة، وألا تُحجَب عنه المعلومة لأي سبب يتعلق بالظروف الجغرافية أو السياسية أو الاقتصادية أو الرقابية".
وعن تحديات السوق، يقول شريف رزق مدير النشر في دار التنوير بمصر: "المشكلات التي تواجهنا على عدة مستويات اقتصادية وثقافية؛ أما الاقتصادية فنحن نعاني من النسخ المزورة التي تنتشر بديلا لإصداراتنا، وهي مشكلة عامة لا لدار التنوير فحسب، ما يضيع جهدًا وأموالًا بسبب ناشري "بير السلم"، أو من يقوم بنسخ هذه الكتب إلكترونيًا، وهذا بكل أشكاله سرقة وتضييع لجهود كما أنها لا تخدم المعرفة بأي شكل من الأشكال. وعلى المستوى الثقافي فلا يتوفر العديد من المترجمين الجيدين. دور النشر "القديمة" ارتكنت إلى مجموعة من الأسماء لا تغيرها، ونحن في سعي دائم للبحث عن الجديد بحد أدنى من الجودة ونجد مشقة في الوصول إليه".
يوافق محمد جميل صبري مؤسس ومدير دار كيان ما ذهب إليه رزق، ويضيف "ليست فقط النسخ المزورة هي المشكلة، بل في عدم وجود قانون رادع لمثل هذه التعديات، أنا لي خبرة كبيرة في النشر قبل أن أفتتح دار كيان، وكنت من الشباب الذين بدؤوا في سوق النشر من أول السلم، وعليه فإن مايواجهنا من هذه السرقات حتى الآن لا حل له".
كثير من الناشرين الشباب يواجهون تحديات السوق اقتصاديًا وثقافيًا، في ساحة لا معايير تحكمها، ووسط كيانات مخضرمة قديمة في منطقتها الدافئة، وعليه فإن التحديات أمامهم كبيرة والآمال أكبر.
اقرأ/ي أيضًا: