"أنا عبد الهادي النجار".. هكذا صرح مصطفى أمين ذات مرة، دون أن يكون لديه ما يثبت ذلك حقًا، فالشخصية الروائية التي صاغها فتحي غانم في روايته "زينب والعرش" قد حامت فوق رؤوس كثيرة (بينهم بالطبع محمد حسنين هيكل) دون أن تستقر على أحد، ذلك أن ما فيها من سمات أساسية هي في الواقع قواسم مشتركة بين صحفيين عديدين من جيل أمين ومن أجيال سابقة ولاحقة.
يحلو لكثير من المعجبين بمصطفى أمين أن يقولوا إنه ولد صحفيًا. في عمر الثماني سنوات أسّس مع توأمه، علي، جريدة أسمياها "الحقوق" وكانت تنقل أخبار البيت والجيران والأقارب
عبد الهادي النجار، صحفي مصري صعد إلى الواجهة في فترة الأربعينات من القرن العشرين. داهمته ثورة يوليو (1952) وهو في أوج نجاحه. أربكته ولكنها لم توقف مسيرته، إذ سرعان ما تكيف وغير جلده ليستمر صعودًا. رجل ذكي، بلا مبادئ، وصولي، يجيد اللعب على حبال كثيرة.. حتى أن الفصل من الرواية الذي يقدمه (وهو الفصل الافتتاحي) يحمل هذا العنوان الدال: "شيطان يفرض نفسه".
ولقد تم تلطيف شخصية عبد الهادي النجار كثيرًا في المسلسل التلفزيوني المأخوذ عن الرواية (عرض سنة 1980)، لا سيما وأن محمود مرسي هو الذي لعب الدور، ورغم كل ما ظهر من النجار، وغم كل ما قالته عنه الشخصيات الأخرى في المسلسل، فإن مرسي قد حوله إلى رجل جذاب، ذي بريق، وعصي على شعور الكراهية..
ولكن لماذا تبرع مصطفى أمين ونسب إلى نفسه هذه التهمة، علمًا أنه كان بلا شك يقصد بطل الرواية، وليس بطل المسلسل؟ لماذا اعترف بأنه يملك من الصفات ما يجعله ذلك الشيطان الروائي؟!
يحلو لكثير من المعجبين بمصطفى أمين (1914ـ 1997) أن يقولوا إنه ولد صحفيًا. في عمر الثماني سنوات أسّس مع توأمه، علي، جريدة أسمياها "الحقوق" وكانت تنقل أخبار البيت والجيران والأقارب.. ثم أصدرا مجلة "التلميذ" عام 1928، وكان عمرهما 14 سنة، فهاجما الحكومة ورموزًا مهمة في السياسة والمجتمع، ثم كانت مجلة "الأقلام" التي لم تعمر طويلًا.
في عام 1930 انضم مصطفى أمين إلى مجلة "روز اليوسف"، وسرعان ما تم تعينه نائبًا لرئيس تحريرها وهو ما يزال طالبًا في المرحلة الثانوية، ثم انتقل للعمل في مجلة "آخر ساعة" والتي أسسها محمد التابعي، وكان مصطفى أمين هو من اختار لها هذا الاسم.
في حياته، بالأحرى: في نشأته، أمر خاص ومميز، ذلك أنه نشأ في بيت سعد زغلول. كان أبوه (واسمه أمين أبو يوسف) محاميًا معروفًا، أما أمه فهي ابنة شقيقة "زعيم الأمة" التي عاشت في كنفه ولم تغادره حتى بعد زواجها. وظلت هذه بصمة في حياة التوأمين: لقد أكلا وناما ولعبا ودرسا في "بيت الأمة".
يفتتح مصطفى كتابه "مسائل شخصية" بفصل عن صفية زغلول زوجة الزعيم، وأم المصريين. يحكي عن دورها في ثورة الـ 19 وعن مواقفها إبان نفي سعد، والأهم كيف أنها كانت له ولشقيقه بمثابة أم ثانية. كما يحكي عن سعد، الجد العطوف الذي كان يقتطع من أوقاته الصاخبة ساعات ليكلم فيها الولدين ويصغي إليهما..
درس مصطفى الحقوق، ثم سافر إلى الولايات المتحدة حيث حصل على ماجستير في العلوم السياسية، وبعد عودته إلى القاهرة بسنوات، في العام 1944، بدأت حكاية "أخبار اليوم"، وهي واحدة من أهم حكايات الصحافة العربية وأكثرها ثراء.
"أخبار اليوم" كانت دارًا للصحافة، انطلقت ثورة عاصفة حطمت تقاليد وغيرت قواعد واصطنعت أساليب غير مألوفة، ثم صارت مدرسة راسخة خرجت أجيالًا من الصحفيين اللامعين، ليتوج الشقيقان، مصطفى وعلي، كاثنين من أهم معلمي الصحافة في مصر والعالم العربي.
كان مقررًا لمصطفى أمين أن يبقى في السجن طويلًا، ولكن في العام 1972 قامت أم كلثوم بمرافقة ابنتي مصطفى أمين إلى بيت السادات ورجته الإفراج عنه، ووافق الرئيس ولكنه نفذ قراره بعد سنتين
كان علي رائدًا في الشؤون التقنية، التصميم والإخراج والطباعة، وكان مصطفى قلمًا سيالًا، يكتب ويكتب ويكتب.. كما كان مسبارًا عجيبًا لكشف الأسرار ونبش الخبايا، وسجلًا دقيقًا للمعلومات والبيانات والعلاقات الاجتماعية..
معًا صنعا "أخبار اليوم"، ومعًا أداراها، ومعًا جعلاها أيقونة.. ثم تفرق شملهما، مصطفى أودع في السجن تسع سنوات، وعلي هاجر إلى لندن ليتوفى سنة 1976، وعاش مصطفى بلا "نصفه الآخر" (كما يسمي شقيقه الراحل في مقال مؤثر)، حتى سنة 1997.
وما الذي يجمع بين مصطفى أمين وعبد الهادي النجار؟ كلاهما كان صحفيًا بارعًا، صحفيًا بالمعنى التقليدي للكلمة والموشك على الانقراض الآن، وكلاهما كان خزانًا مترعًا بالأسرار، وكلاهما كان على علاقة بالجميع: القصر والأحزاب والبرلمان والمعارضة والسفراء الفاعلين، وكذلك فكلاهما عاش حياته بالطول وبالعرض.
أما عن مسألة المبادئ، فبإمكاننا حسمها بشأن الشخصية الروائية، أما بشأن البطل الذي من لحم ودم فالمسألة أكثر صعوبة بكثير، فنحن أمام حالة إنسانية تجسدت في سياق مهنة خاصة، مهنة عمادها النهل من جميع المصادر، ومفردتها المقدسة الوحيدة هي النشر بلا رحمة. وإذا كان من ثابت في سيرة أمين فهو أنه كان مثالًا نادرًا في إخلاصه لمهنة الصحافة. وكذلك كان عبد الهادي النجار، ولعل هذا ما قصده الصحفي الكبير في إعلان نسب الشخصية الروائية إليه.
بالطبع لا يمكن الحديث عن مصطفى أمين دون الحديث عن سجنه. في العام 1965 أُتهم بالتخابر مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وحكم عليه بالسجن. هل كانت التهمة حقيقة؟ هو وأصدقاؤه ومريدوه، ومعظمهم من خصوم عبد الناصر، يقولون إنها تهمة ملفقة، والحكاية أن الرئيس المصري كلفه بالاتصال بالأمريكيين وكان يلقنه ما عليه قوله لهم، وعندما وقع الخصام بين الرئيس والصحفي، كانت هذه "المهمة الوطنية" مادة جاهزة لحكاية الجاسوسية. بالمقابل: خصومه يتحدثون عن وثائق ومستندات وتسجيلات، تجعل التهمة ثابتة. هيكل يستطرد في سرد تفاصيل كثيرة عن القصة في كتابه "بين الصحافة والسياسة"، ولكن هيكل كان طرفًا في القضية، وصار عدوًا لدودًا لأستاذه السابق في الصحافة. ثم من الذي لا يزال يصدق هيكل اليوم؟!
وكان مقررًا لمصطفى أمين أن يبقى في السجن طويلًا، ولكن في العام 1972 قامت المطربة أم كلثوم بمرافقة ابنتي مصطفى أمين إلى بيت السادات ورجته الإفراج عن الصحفي المريض، ووافق الرئيس ولكنه نفذ قراره بعد سنتين.
أمين يروي الواقعة في كتابه "مسائل شخصية"، كما يروي واقعة أخرى: في لقاء ضم عبد الناصر ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم، قال عبد الناصر للموسيقار: "لعلك غاضب من حبس صديقك مصطفى أمين؟"، رد عبد الوهاب: "أبدًا.. المخطئ يجب أن يتلقى جزاءه". أما أم كلثوم فنافحت عن السجين واستطردت في الحديث عن مواقفه الوطنية!