الشوط الأول: المرزوقي: الإسلام السياسي فاسد، أداة في تمسيح الإسلام، وبالذات حركة النهضة!
1. على خطى ابن أبي معيط!
ورد في كتب السير والتفسير أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أرسل الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق ليأخذ منهم الصدقات. خرج بنو المصطلق زرافات ووحدانًا يستقبلون رسولَ رسولِ الله إعظامًا وإجلالًا. خرجوا بنية صادقة، ومحبة جارفة. لكنّ ابن أبي معيط، كما ورد في الروايات، توهّم أنهم قاتِلوه فخافهم على نفسه، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال إنهم "منعوا الصدقة"، وفي رواية "ارتدّوا". فأرسل النبي إليهم خالد بن الوليد ليستكشف له أمرهم، فيقضي فيهم، فإذا هم مسلمون، وإذا هم قد خرجوا تعظيمًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبّة له، وإذا الخبر كاذب، وفيه تحريض ضمنيّ على قوم زعم صاحب النبأ فيهم أنهم "أعداء" للدين. وهنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التثبت من الله، والعجلة من الشيطان". وكان هذا سبب نزول قول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين". ولئن كان من شيمة المؤمنين أن يندموا إذا ظَلموا، فإن كثيرًا اليوم ممن يدّعي الإيمان لا يعترف ولا يندم، بل يصرّ على الكذب في معركة تافهة، وتحريض رخيص.
ولئن كنّا قد تكلمنا في المقالة الأولى عن النزعة "القينقاعية" (نسبة إلى بني قينقاع)، وتكلمنا في المقالة الثانية عن ذوي خويصرات عصرنا (نسبة إلى ذي الخويصرة التميمي)، ففي هذه المقالة نتكلم عن النزعة "المعيطيّة" (نسبة إلى الوليد بن عقبة بن أبي معيط).
أما "صاحب النبأ" في قصتنا هنا فهو "أستاذ الأخلاق السياسية" محمد مختار الشنقيطي، وأما النّبأ الذي جاء به فهو أن برنامج "قراءة ثانية" حلقة من حلقات مشروع يسمّيه مشروع "تمسيح الإسلام".
جاء "أستاذ الأخلاق" بالنبأ، وتلقفه مؤمنون "لم يتبيّنوا"، ومنهم ناس بعمائم ولحى، مع الأسف، ردّدوا صوته ترداد الصدى.
لا يسألون أخاهم حين يندبهم .. في "الافتراء" على ما قال برهانًا
وما كان أصدق الإمام محمد عبده حين قال وهو يعاني سكرات الموت:
ولستُ أبالي أن يقال: محمّدٌ .. أبلّ أم اكتظّت عليه المآتمُ
ولكنّ دينًا قد أردت صلاحه .. أحاذر أن تقضي عليه العمائمُ
كل هذا، بعد الحلقة الأولى مباشرة والتي كان السؤال فيها عن "جزئية فقهية" هي: هل أمر بالإسلام بدولة؟ وكان رأيي واضحًا وصريحًا: الإسلام فيه نظام أخلاقي وتشريعي وقضائي، لا شك في هذا، أما الدولة فهي وسيلة من وسائل التطبيق تنتمي إلى التاريخ متروكة للعباد ومصالحهم.
اقرأ/ي أيضًا: برنامج "قراءة ثانية".. جدل كاشف
قامت قيامة "أستاذ الأخلاق"، وإذا البرنامج كله، ومنذ الحلقة الأولى التي شاركتُ فيها، هو التجلّي الأخير لمشروع يشتغل على "قدم وساق" هدفه تمسيح الإسلام.
ولئن كنّا لا نلوم المكذوبين (مع استحقاقهم اللوم على أن لم يتبيّنوا)، لأنه "لا رأي لمكذوب"، فإننا نطالب صاحب النبأ، شيخ الطريقة "المعيطية" في هذا العصر، أن يضع يده على موطن "التمسيح" المدّعى، فيدلنا عليه، إذا فهمناه عزلًا للدين عن المجال العام. لا لشيء إلا ليثبت على الأقل "صدقه" أمام الناس.
لكنّ "أستاذ الشيزوفرينيا"، بعد أن أقام الدنيا ولم يقعدها، رجع فكتب، بعد أن طارت باتهاماته البغال الشهبُ، أن التمسيح لا يتجلى في "جزئيات فقهية" ولكنه يتجلى فيما هو أخطر، أي الطعن في أصالة القرآن، وسنناقش هذا في الجزء الثاني من المقالة، لنرى كيف تتراكب التناقضات والمفارقات فتضحي ظلمات بعضها فوق بعض.
كما ترى! مرةً يقول، كما أوضحنا في المقالة الأولى، إن البرنامج والحلقة التي شاركت فيها تحديدًا هي جزء في مشروع تمسيح الإسلام، ومرة يرى أن التمسيح لا يتجلى في جزئيات فقهية. ومرّة يرى أن المشاركين في البرنامج مأجورون باعوا ضمائرهم ومصطنعون، ومرة يقول إنهم لا يقرؤون وإذن فهم جهلة مساكين!
وهنا لا يخلو الأمر من احتمالين:
أولهما: أن يكون البرنامج، كما ادّعى "شيخ الطريقة"، آخر حلقة في سلسلة "تمسيح الإسلام. لكنّ البرنامج في كل قضاياه لم يناقش إلا قضايا فقهية جزئية بين مختصين كما هو واضح، فكيف يصفه بأنه تمسيح للإسلام ولكنه في الوقت ذاته يناقش جزئيات لا يتجلى فيها تمسيح الإسلام (بحسب تعبير صاحب النبأ)؟
وثانيهما: أن يكون البرنامج في الأصل يطرح قضايا فقهية، جزئية لا يتجلّى فيها تمسيح الإسلام، كما أوضح أستاذ الشيزوفرينيا، فما معنى أن يثور عليه، إذن، ويحرّض، ويصفه بأنه تمسيح للإسلام؟
تناقض له جهتان، يحاصرانه أنّى توجّه، كما قالت العرب، إن تقدّم نُحر، أو تأخّر عُقِر، أو كمن عنُقُه بين مشقصين، إن رفعه قُطع أو خفضه وُدِج، أو كما قال الأوّل: جبن وغيرة، حشف وسوء كيلة، كسف وإمساك، شرَقٌ وغرَق، غدّة كغدّة البعير وموت في بيت سلولية!
ونحن لا نزال نطالب صاحب الكوجيتو التحريضي "أنا أحرّض إذن أنا موجود"، لا نزال نطالبه بالدليل، فما تراه يقول؟ أيقول إنه لا يجوز النقاش في حد الرجم على سبيل المثال أو حدّ الردّة؟ أيقول إن الدولة ليست وسيلة يجتهد فيها البشر؟ ماذا سيقول يا ترى؟
لن يجيب بالطبع، بل سيجد تبريرًا أخلاقيًا (وهو المختص الخبير) يقفز به إلى الحديث في "الطعن في القرآن والتشكيك في أصالته" (يا للهول!)، فيذهب إلى غير المطلوب إثباته، لعبًا وبهلوانية.
أتراه يورط نفسه فيدّعي أن حلقة الرجم، مثلًا، تمسيح للإسلام؟
كيف وهو ينكر حدّ الرجم أصلًا بتعبير متطرف أهوج؟ كيف وضيف الحلقة الشيخ عصام تليمة كان أشدّ تحفظًا وأدبًا، فقال إن الرجم كان عقوبة تعزيرية، ثم نسخت، أما الشنقيطي فيرى أن حدّ الرجم هو "عقوبة همجية"، مع أنه يقول به الأئمة الأربعة، بل الإجماع محكيّ فيه، بل هو عند عموم الأئمة متواتر (وإن كان في تعريف التواتر الملزم خلاف). وهكذا فإن عموم أئمة الإسلام، وعموم الأمة المحمدية، يعتقدون أن النبي طبّق عقوبة همجية، وعامّة المسلمين يعتقدون اعتقادات همجية. وهذا الوصف (الهمجية) لا ينتمي إلى البحث العلمي الرصين بل إلى ما عهدناه منه، وفق النزعة الخويصرية، من المزايدات، ووفق النزعة القينقاعية من الخفة والطيش، وهو في الحقيقة تأثر باتهامات أعداء الإسلام وترداد لكلامهم. فما قوله في قطع يد السارق؟ وما قوله في قطع الأيدي والأرجل من خلاف؟ بأي مقياس يمكن وصفها بأنهما همجية أو غير همجية؟ لن يجد مقياسًا، لأن هذا وصف في الحقيقة شعبوي خطابي أهوج.
عصام تليمة كان أشدّ تحفظًا وأدبًا، فقال إن الرجم كان عقوبة تعزيرية، ثم نسخت، أما الشنقيطي فيرى أن حدّ الرجم هو "عقوبة همجية"
فإذا كان طرح هذه القضايا والنقاش فيها "تمسيحًا"، فهو من السابقين إلى التمسيح ومن السلف "الصالح" فيه! وإذا لم يكن كذلك، فما هو إذن إلا تحريض رخيص واتهام مبتذل مغرض بلا أي دليل إلا الدعاوى العريضة التي لم يقم عليها البيّنات.
2. حين يُزيَّن الكعك الفاسد
يبرع الشنقيطي في اختراع جمل رنّانة، يحسب أنه يختصر فيها الكثير، فمن ذلك مثلًا تعبيره عن أن جذور الطائفية تعود إلى "حنبلة السنة وسمعلة الشيعة". أي أن الحنابلة والإسماعيلية طائفيون أصالةً، وأن أهل السنة عمومًا تأثروا بالحنابلة فصاروا طائفيين. هذا كلام أقل ما يقال فيه إنه كلام سخيف وجاهل، وترويجه أشد جهالة وسخفًا، وهو تزييف للوعي بالتاريخ، وقلب للحقائق، وظلم وافتراء، ليس جديدًا منه، على الحنابلة والمذهب الحنبلي. فما قوله في طائفية لبنان؟ أهي أيضًا ناتجة من "مرْوَنة المسيحية" (نسبة إلى المارونية) أو "درزنة الإسماعيلية" (نسبة إلى الدروز) وغير ذلك؟
ومثل هذا مصطلح "تمسيح الإسلام" المزعوم، ما المقصد منه؟ هل المقصد منه قراءة الإسلام أنه "تثليث" مثلًا؟ هل المقصد منه التجسّد الإلهي في المسيح عليه السلام أو عدّه هو إلهًا؟ وهاتان العقيدتان هما لبّ المسيحية.
لا هذا ولا ذاك، يقول الشنقيطي إنه أخذ المصطلح من صاحبه أبو يعرب المرزوقي، فشرحه كما شرح ابن رشد أرسطو (مع توقيري لابن رشد وأرسطو، وابن رشد ما كان إلا فريسة للمحرضين من أسلاف الشنقيطي)، ولكن الشنقيطي "شارح أرسطو" بيّن مراده منه، فهو، كما يرى مولانا الشارح، أدقّ في التعبير من لفظ العلمانية الغامض.
وترى في الصورة كيف أن "أرسطو" دخل يناقش الشارح في فهمه، وأن تمسيح الإسلام بجعل الناس تحت سلطتي الكنيسة والدولة معًا، مجاف للإسلام حتى بصيغة العلمنة (أي علمنة الإسلام)!
فإذا كان هناك صيغة لعلمنة الإسلام تجافي تمسيح الإسلام عند المتفلسف المرزوقي، فما معنى اعتبار "تمسيح الإسلام" أدقّ من "العلمانية" عند الشارح الأكبر؟ وهل يرى الشارح الأكبر أن مشروع تمسيح الإسلام المزعوم الذي اتهمنا به يصب في هذا الاتجاه؟
وهل يعني بتمسيح الإسلام أن قناة التلفزيون العربي تدّعي احتكار تفسير الدين في مؤسسة كنسية مثلًا تتهم من يجتهد بالبدعة والضلالة أو الكفر؟ لست أدري، ولا المنجّم يدري، وحديث خرافة يا أم عمرو!
لكن "شارح أرسطو" لا يدعنا حائرين فيستمرّ في الشرح (على رغم أنف المتفلسف المرزوقي، وعلى رغم الاختلاف الواضح بينهما)، فيدّعي أن مشروع تمسيح الإسلام يخيّر الشعوب بين الاستبداد والعلمانية، أي إن تمسيح الإسلام الذي هو "علمنة الإسلام" (والذي يرى المتفلسف المرزوقي أنها شيء آخر غير تمسيحه) هو استراتيجية من اتهمهم بهذا المصطلح المتناقض داخليًا.
لن نتكلم هنا عن الأنا المتضخمة في التحدث باسم الشعوب، على مذهب لويس الرابع عشر! لكننا نتساءل عن أي إسلام تريده الشعوب؟ الإسلام الذي فيه حدّ الردّة وحدّ الرجم اللذان ينكرهما الشنقيطي على سبيل المثال أم إسلام آخر غيره؟ وكم واحدًا من الشعوب المسلمة يعتقد أن حدّ الردّة والرجم ليسا من الإسلام؟ ولماذا لا يقال إن الشعوب تريد أن تعيش في دولة عدل، ولا يبالون بهذه الشعارات التافهة ومصطلحات "الكعك الفاسد" المزيّن من الخارج، ولكنّه عفن من الداخل؛ مصطلحات المقاهي السطحية المتهالكة من داخلها، ما فيها عمق ولا رصانة، ولا لها مصاديق.
اقرأ/ي أيضًا: محمد مختار الشنقيطي وحيدًا
هل يجهل "أستاذ التناقض الأخلاقي" أن تاريخ المسيحية السياسي أطول بمراحل من تاريخها الديني المحض، قبل أن تحيّدها العلمانية جزئيًا أو كليًا؟ فما معنى وصف العلمنة بأنها هي ذاتها تمسيح؟ وهل يجهل صاحب كتاب "الحروب الصليبية" أن المسيحية السياسية هي التي غزت عالمنا العربي والإسلامي وأقامت دولًا مسيحية فيه، قريبًا من قرنين من الزمان؟ وأن تحييد المسيحية عن السلطة جزئيًا أو كليًا لم يكن إلا قبل قرن من الزمن تقريبًا؟ أم يريد بائع المصطلحات الفارغة أن يبرّئ الصليبيين من علاقتهم بالمسيحية؟
بهذه الفهاهة وبهذا السخف يأخذ الشنقيطي المصطلح من صاحبه، ثم يفسّره بخلاف تفسيره، ثم يجعله سهمًا يرمي به خصومه بلا ذرة من دليل ولا برهان، ويظن أنه سيصيب الهدف! أنّى والبصر أعمى، واليد شلّاء، والنبال غير مبريّة، والقوس مكسورة، والوتر مرخيّ!
بهذه الفهاهة وبهذا السخف يأخذ الشنقيطي مصطلح "تمسيح الإسلام" من صاحبه، ثم يفسّره بخلاف تفسيره، ثم يجعله سهمًا يرمي به خصومه بلا ذرة من دليل ولا برهان!
3. "تمسيح الإسلام" بين الصانع والبائع
يتقارض الشنقيطي والمرزوقي (وإن شئت فقل: الشارح وأرسطو)، الثناء، فالشنقيطي يسميه "أستاذنا"، ويكثر النقل عنه في تويتر، والمرزوقي يثني عليه في "التواضع" الجم.
لكن هذا الثناء الظاهر، ربما لا يدري صاحباه أن تحته شتائم متبادلة، لأنهما على التحقيق مختلفان كل الاختلاف، لا في مصطلح تمسيح الإسلام فقط، بل حتى في فهم الإسلام والدين.
فالشنقيطي عدوّ لمن يشكك في القرآن وينزع عن الدين قطعياته الثابتة، ويقرؤه قراءة مسيحية، ويرى أن هذا هو تمسيح الإسلام، لا الجزئيات الفقهية.
لكن المرزوقي يرى أن الحركات الإسلامية، التي يستميت الشنقيطي في الدفاع عنها، والموسومة بـ "وسطية الإسلام"، والتي تقبل باللعبة السياسية وفق شروط الدولة القُطرية، ما هي إلا أدوات في "تمسيح الإسلام"، وبالذات حركة النهضة التونسية. وإليك البيان.
أبو يعرب المرزوقي: حركات الإسلام السياسي "أدوات" في تمسيح الإسلام، وهي إسلام سياسي بأفسد معنى للكلمة!
يرى الشنقيطي أن أعداء الدين العلمانيين العتاة ينقدون الحركات الإسلامية لعجزهم عن نقد الإسلام (انظر الصورة في نهاية المقال). وقد أصدر الشنقيطي كتابًا أخيرًا له بعنوان "الأزمة الدستورية"، قدّمه له راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة التونسية، وهي من حركات الإسلام السياسي، التي يدافع عنها الشنقيطي بشراسة منقطعة النظير. لكن هل يعلم الشنقيطي أن "أستاذه" مخترع مصطلح "تمسيح الإسلام" إنما يطلقه على حركة النهضة وأشباهها من سائر الإسلاميين؟ وأنه يشير إلى حركة النهضة، بل عامة الإسلاميين الذين يدافع الشنقيطي عنهم وينتمي إليهم، بأنهم مساهمون، هم أنفسهم، في "تمسيح الإسلام"؟
حركة النهضة يشير إليها المرزوقي بأنها من أدوات تمسيح الإسلام، بينما الشنقيطي يلجأ إلى رئيسها ليقدم له كتابه الأخير عن الأزمة الدستورية، أي إن المرزوقي يطلق المصطلح على مقدّم كتاب الشنقيطي، وعلى حركته، وسائر الإسلاميين، وعلى الشنقيطي، بالتبع، طبعًا، فهو مدافع شرس عن الحركات الإسلامية، فيا لسخرية المفارقات!
ويأتي الشنقيطي فيأخذ هذا المصطلح، الذي أطلقه المرزوقي على الحركات الإسلامية، فيطلقه الشنقيطي على خصومه (الذين هم أصلًا حلفاؤه) من حيث كونهم يعلْمنون الدين ويقرؤونه بعيون مسيحية.
سنقف هاهنا وقفتين: وقفة مع مصطلح تمسيح الإسلام عند صانعه المرزوقي، ونرى على من يطلقه.
ثم وقفة أخرى في هذا المصطلح عند "وكيله الحصري" الشنقيطي، وعلى من يطلقه.
يقول المرزوقي، الذي يسميه الشنقيطي "أستاذنا"، في مقالته "الإسلام السياسي أو تأملات في رؤيته التاريخية واستراتيجيته السياسية"
"إن حركات الإسلام السياسي لم تفلح بعد الثورات في تغيير خطابها، وإنها بجمعياتها الخيرية إنما تمارس "الرشوة" للناخبين (تأمّل، يعني يعملون لغير وجه الله)، مما هو ليس إلا "أنشطة متخلفة لا تتجاوز التنظيم السياسي للوصول إلى الحكم"، ويتساءل: "هل أسسوا جامعة حرة حديثة بحق دون دروشة؟" (الإسلاميون دراويش!)، "هل أسسوا معاهد بحث علمية جدية تتجاوز الإيديولوجيا التي تطبل لحزب همه الأول والأخير هو الحكم بشروط فرنسا وإسرائيل؟" (الإسلاميون همّهم الأوحد هو الحكم بشروط المحتل والمستعمر)".
فتأمّل ما يصف به المرزوقي حزب النهضة الذي لجأ الشنقيطي إلى رئيسه ليقدم له كتابه. وبعد أن يقرر المرزوقي هذه المصائب والمعايب راميًا بها حزب النهضة الذي رئيسه راشد الغنوشي، يستنتج أن هذا الحزب "يستخدم الإسلام ولا يخدمه"، فما رأي الشارح الوفيّ، يا ترى، في كلام "أستاذه" عن الحزب الذي قدّم رئيسه له كتابه الأخير؟ مرة أخرى، يا للسخرية!
ثم يكمل المرزوقي حربه الشعواء التي يوسّعها ليشنها حتى على الإسلاميين جميعًا، لا حزب النهضة فقط، فيقول: "كلامي ليس مقصورًا على إسلاميي تونس حتى وإن كانت المثال الأقرب لي والتي لعلي أدرى بها من غيرها في بلاد العرب"، وإذن فكل حركات الإسلام السياسي تستخدم الإسلام ولا تخدمه، وكلها ترشو ناخبيها باسم الجمعيات الخيرية والصدقات وعمل البرّ، وكلها "تطبّل" لحزب يريد الحكم بشروط المستعمر الأجنبي. ليستنتج أن "الحصيلة هي أن الإسلام السياسي سياسي بأفسد معنى للسياسة" (وهنا أهنّئ أستاذ المسخرة السياسية بهذه الشهادة من "أستاذه" البروفيسور؛ إن الحركات التي تدافع عنها هي سياسية بأفسد معنى للسياسية عند صانع المصطلح الذي طالما أشدت به، وصانع المصطلح إنما يرمي الحركات الإسلامية ويرميك أنت به!). ويختم مقالته بأنه "من ضيق الحوصلة توهم الإسلام بحاجة للحركات التي من هذا النوع ليبقى دين الأمة". لا حاجة إذن إلى حركات من هذا النوع في الأمّة، لا شرعية لوجود حركات إسلامية (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان).
اقرأ/ي أيضًا: أخلاقيات الزمن الفروسي الإسلامي
ما الحل إذن؟ الحل هو "استراتيجية تحقيق سيادة دار الإسلام". لكن كيف تتحقق هذه السيادة؟ لا يمكن أن تتحقق "بمنطق التربية الدينية في إطار التفتيت الجغرافي والتمزيق التاريخي اللذين سيزداد ترسيخًا إذا اراد الإسلام السياسي أن يصبح حاكما في المحميات التي ستبقى محميات تابعة بل ستزداد تبعية وسيصبحون أدوات ’تمسيح الإسلام‘". (خطاب الخلافة الراشدة، وبطريقة حزب التحرير، تحقيق السيادة عن طريق الوحدة أولًا، لا التربية الدينية أولًا، كما هو أساس الحركات الإسلامية الخارجة من عباءة الإخوان أو المنتمية إليهم). لكن ما الذي يعنيه المرزوقي بتمسيح الإسلام؟ يقول: "وما أعنيه بـ ’تمسيح الإسلام‘ هو ما يسمى باحتشام ’وسطية الإسلام‘ بمعنى تحييده في الخيارات السياسية الكبرى، لأن ذلك هو شرط الحماة للمحميات العربية للسماح للإسلاميين بالمشاركة في الحكم ككمبارس". فجماعات الإسلام السياسي عامّة، ولا سيما حركة النهضة، هم اليوم أصحاب مصطلح "وسطية الإسلام".
ثم يوضح مراده بعد هذا، لنعلم أنه يعني بتمسيح الإسلام، بالتعيين والتحديد، الحركات الإسلامية وبالذات حركة النهضة التونسية فيقول: "أي فائدة من الكلام على إسلامي سياسي إذا كانت الحركات الإسلامية تقبل هذه الشروط حتى تشارك في حكم لن تكون فيه أحرص من الأنظمة القومية والطائفية والعلمانية قولًا بالدولة القُطرية التي ليس لها من الدولة إلا اسمها لأنها محمية وليست دولة ذات سيادة"؟!
وهكذا أبدى الصريح عن الرغوة، كما يقول العرب، فحركات الإسلام السياسي بعامة، وحركة النهضة بخاصة، هي "أدوات" في "تمسيح الإسلام" لأنها تقبل بشروط الدولة "القُطرية" اليوم. وهذا يشمل حزب النهضة ورئيسها الذي قدّم كتاب الشنقيطي الأخير! فالشنقيطي إذن يقبل بأن يقدّم كتابَه رجل هو عند "أستاذه المرزوقي" رئيس حركة تسهم في تمسيح الإسلام؟ والشنقيطي مدافع شرس عن حركات الإسلام السياسي التي تسهم في تمسيح الإسلام، وتستخدم الدين ولا تخدمه، والتي هي إسلام سياسي بأفسد معنى للسياسة. والنتيجة: اللهم لا شماتة!
مفارقة لا تكاد تحصل حتى في الأودية المسحورة، ولا في أحلام السكارى، ولا في بلاد العجائب! لكنها تحدث مع هذين المخلوقين الفريدين، اللذين حويا من الأعاجيب عوالم لا تُحصر من الازدواج والتناقض والبهلوانية والمساخر الفكرية والسياسية.
ولئن كان الشنقيطي يغضب من نقد الحركات الإسلامية؛ لأن هذا، عنده، عجز عن نقد الإسلام نفسه، فإنه لا يلتفت إلى من نقد الحركات الإسلامية كلها وهاجمها، وجعلها من أدوات تمسيح الإسلام، بل نقد الإسلام نفسه وشكك في الدين والقرآن وأخلاه من كل دليل قطعي (كما سيأتي في الجزء الثاني من المقالة).
صدق ابن عبد القدوس حين قال:
لا يبلغ الأعداءُ من جاهلٍ ما يبلغ الجاهل من نفسهِ
ولكأني بالمرزوقي يشتم الحركات الإسلامية، ويوسعها عيبًا ويشير إلى أنها هي والشنقيطي المستميت دونها، أدوات لتمسيح الإسلام، كما رأينا وسنرى في المقالة المقبلة، فينظر إليه الشنقيطي بمودّة وانشراح، ويبتسم له ويقول:
فديتُك، قد جبلتُ على هواكا .. فنفسي لا تنازعني سواكا
أحبّك لا ببعضي، بل بكلّي .. وإن لم يبقِ حبُّك بي حراكا
ويقبُح من سواك الفعلُ عندي .. فتفعلُه، فيحسنُ منك ذاكا!
اقرأ/ي أيضًا:
برنامج "قراءة ثانية".. حوار في مواجهة الوصاية الفكرية
محمد مختار الشنقيطي وميزان الأخلاق المعطوب