عندما يزورك في المغرب صديق أديب أو مهتم بالأدب والشعر من دولة أخرى، ويسألك بدون مقدمات من هو الشاعر الكبير عندكم؟ تَفْغَرُ فَاكَ على الفور من الدهشة وكأنه سأل عن العنقاء! تُغَالب الصدمة بسَعْلة مصطنعة، ثم تأخذ فنجان القهوة وترشف منه رشفات، وتفضل أن تطيل أمَدَ الجواب بالقول إن هذه القهوة باردة، أو إنها ينقصها السكر، أو إن الجو اليوم غير صحو بما فيه الكفاية!
ماذا ترسبَ في الذاكرة الجماعية المغربية من ديوان الشعر المغربي؟
وعندما يسْتَثْقِلُ ضيفُك هذه المجاملة السمجة، ويرجع بك مجددًا إلى السؤال الكبير؛ تُوقِن أن الأمر جد لا مزاح فيه. عندها تُجَرب خطتك الثانية، فتتقمص دور الطالب المتذاكي أمام لجنة من الأساتذة. تبدأ ببعض اللف والدوران من قبيل: في الحقيقة لا أدري ما المقصود بالكبير؟ ومعيار الكبر قد يكون مختلفًا؟ وهل المطلوب أصلًا أن يكون هناك شاعر مغربي كبير؟ ألا تعلم حضرتك أن الثقافة العربية واحدة، وفيها رموز وأصنام مشتركة؟ ثم لماذا علينا أن نُضَخم الأسماء بالكبير والعميد والزعيم و... وهي عادة المصريين الفراعنة! المغاربة متضلعون جدًا في علومهم وفنونهم، لكنهم أيضًا متواضعون جدًا، والكبير عندهم هو الله!
اقرأ/ي أيضًا: مترجم سويدي: لماذا يغيب سليم بركات عن البوكر؟
قد لا تفلح الوصفة مرة أخرى، فتجرب أن تَقْلِبَ قُفَّةَ السؤال عليه: وهل هناك من لا يزال يسأل عن الشاعر الكبير؟ لقد توقف النمو في الشِّعر منذ عقود، ولا أحد أصبح يبلغ درجة الكِبَر فيه، الكل الآن إما مبتدئ وإما لا بأس به، وسدرة الشعر ليس فيها منتهى. لكنك قد تكون إيجابيًا ومتفائلًا، فتحاول تجريب ذِكر الكثير من الأسماء من الأموات والأحياء دون أن تكون مقتنعًا بهم جميعًا، فتقول: كثيرون هم يا صديقي، يمكن أن نذكر المجاطي، الخمار الكنوني، السرغيني، بنيس، الطبال، الرباوي... يقاطعك: نعم لقد سمعت بمحمد بنيس من قبل.
أخيرًا تَجِدُه سمع بواحد من قبل. لكنه يسألك إن كان بالفعل يُشكل قامة الشعر المغربي وعلامة مغربية مثل العلامات التي لا تخطئها العين في الساحة العربية؛ في الفلسفة والفكر والاجتماع مثل الجابري والعروي والمرنيسي وطه عبد الرحمن وغيرهم. وهل قصائده تسير بها الركبان ويحفظها المغاربة كما تفعل الأمم مع شعرائها.
تُفَكّر فعلًا، ماذا ترسبَ في الذاكرة الجماعية المغربية من ديوان الشعر المغربي؟ لماذا لا تَشْعُر الأجيال الحالية أن هناك وجهًا شِعْريًا مألوفًا يتبادر أول وهلة إلى الذهن كما هو الأمر بالنسبة لمجالات أخرى يُذْكَر فيها اسم المغاربة؟ ولماذا يحفظ الكثير منا أبياتًا لشعراء حاليين من مصر ومن فلسطين ومن العراق ومن سوريا وغيرها؛ وقَلّمَا تُسْعفهم الذاكرة في تذكر بيت مغربي واحد.
العبقرية ليست نادرة، لكن البيئة التي تكتشف العبقرية وتربيها هي النادرة
كيف يمكن أن يَكْبُرَ شاعر في عَيْنِ الأجيال؟ هل ذلك متروك للطبيعة ونتيجة لعبقرية الشاعر الفذة؛ أم إنه "صناعة" ونتيجة حتمية للبيئة الثقافية التي تُوَفر فُرَصًا، وتُعْلي نَجْمًا وتُربّي جمهورًا، وتصنع سُمْعَة؟ وما دور شاشات التَّلْفَزة التي لا تتعب بُكْرَة وعشيًا مِن استضافة المهَرّجين وأشباههم والفنانين وأشباههم، وتسليط العدسات المكبرة على مختلف خلاياهم الحية والميتة، فيما لا تُفلح في التقاط شاعر يمشي بطوله وعرضه؟ وهل لهذا علاقة بالتعليمات السائدة بأن يُقْضَى على كل ما له حس جمالي حقيقي أو ثقافي ونقدي وقد يُرَبي الجماعات والأذواق، والاهتمام فقط بترميز الكائنات التي لا تُحْتَمَل خِفتها؟
اقرأ/ي أيضًا: يا ليل.. يا عين: شرقٌ روتْهُ النساء
"إن العبقرية ليست نادرة كما نعتقد أحيانًا"، لكن البيئة التي تكتشف العبقرية وتربيها هي النادرة. لكن مع ذلك وبدون مبررات من هو الشاعر المغربي الكبير؟ يتَرَعرعُ فيك الملل، وتحس أنكَ دخلت في نقاش لا طائل من ورائه. تَسْتَسمح منه وتقول إن الحديث ذو شجون والوقت تَأَخر والمقهى يُغْلق الآن أبوابه.
لكن قبل المغادرة؛ هناك سيناريو آخر للإجابة عن السؤال المحرج: ما إن يتم سؤالك عن الشاعر المغربي الكبير؛ استجمع كل شجاعتك الأدبية والنقدية، وخاصة ما يتعلق بنظرية سقوط الأجناس الأدبية وانفتاح بعضها على بعض، وقل دون تلعثم: كبيرنا اليوم سعد المجرد. صدقني لن تتوقع التأثير السحري لهذه الكلمة على أي أحد، سيضرب السائلُ على يدك وسيرد عليك: "إنت معلم، واحنا منك نتعلم". وستتراقص الأضواء في المقهى، ويهرع الناس للمشاركة في الرقصة، وستخبط مكبرات الصوت بجنون على إيقاع المعلم، وستردد الأمة هذه الأبيات من طنجة إلى جاكرتا، وسيقلدها الناس في أمريكا واليابان والصين، وستضمن نصًا عالميًا بين يديك وشاعرًا كبيرًا لا يعلى عليه.
اقرأ/ي أيضًا: