انعقد يومي 10- 11 أيار/ مايو 2022، بإشراف من المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات بالدّوحة، المؤتمرُ الدّوليّ الثّالث الّذي ينظّمه معجم الدّوحة التّاريخيّ للّغة العربيّة (م.د.ت. ل.ع) بالاشتراك مع معهد الدّوحة للدّراسات العليا، والموسوم بـ"معجم الدوحة التاريخي للغة العربية وأبعادة العلمية والحضارية".
لم يكتف معجم الدوحة التاريخي للغة العربية بتعريف اللّفظ سياقيّا وتتبّع ظهوره وتطوّر دلالته عبر العصور، بل حرص، ما أمكن هذا، على تسجيل نظائر الجذور والألفاظ في اللّغات السّاميّة
وخلال هذا المؤتمر يقدّم نخبة من الأساتذة والباحثين من جامعات ومراكز بحوث عربيّة وأجنبيّة مجموعة من البحوث التي تترجم أساسيْن يتلازمان تلازم الوجه والقفا، وعليهما يقوم(م.د.ت. ل.ع)، ونعني:
أ. الأبعاد العلمية
يمثّل (م.د.ت. ل.ع) الذي انطلقت فكرته الأولى منذ سنة 2011، وأطلق رسميّا في 23 أيار/مايو 2013، أحد المشاريع العلميّة الكبرى للمركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات. وقد أُعلِن رسميّا يوم 10كانون الأوّل / ديسمبر2018 عن الفراغ من المرحلة الأولى من بين مراحله الثّلاث[1]. وقد قام على أسس علميّة منهجيّة محدّدة بوضوح في دليله المعياريّ تكشف عن اختيارات تحكّمت في وصف ألفاظ العربيّة ومبانيها في اتّصال مباشر بالشّواهد الشّعريّة والنّثريّة الاستعماليّة المنسوبة إلى قائليها، والمؤرّخة بزمن قولها الدّقيق أو التّقريبيّ، والتي تُعتَمَد في رصد تطوّر أبنية الألفاظ ودلالتها في مختلف العصور .
فمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية كما جاء في تعريفه" يتضمّن ذاكرة كلّ لفظ من ألفاظ اللّغة العربيّة تُسجِّل تاريخ استعماله بدلالته الأولى، وتاريخ تحوّلاته البنيويّة والدّلاليّة، وأسماء مستعمليه في تحوّلاته عبر تاريخ استعمالاته، مع توثيق تلك الذّاكرة بالنّصوص الّتي تشهد على صحّة المعلومات الواردة فيه".
ولم يكتف معجم الدوحة التاريخي للغة العربية بتعريف اللّفظ سياقيّا وتتبّع ظهوره وتطوّر دلالته عبر العصور، بل حرص، ما أمكن هذا، على تسجيل نظائر الجذور والألفاظ في اللّغات السّاميّة (الأكّاديّة، العبريّة، الفينيقيّة ...إلخ.)، وعلى تعيين أصول هذه الألفاظ غير العربيّة الدّخيلة والمعرّبة ( الفارسيّة، الهنديّة، اللّاتينيّة، اليونانيّة..إلخ).
ولهذا السّبب نجد في هذه النّدوة بحوثا تدور على قضايا علميّة متّصلة بـمعجم الدوحة في حدّ ذاتها أو بمقارنته بمعاجم تاريخيّة أخرى، من قبيل البحث في: النّظائر السّاميّة في (م.د.ت. ل.ع) أبعادها الدّلاليّة من منظور العربيّة وتراثها المعجميّ، المعجم العربيّ بين مدوّنتين: بحث مقارن بين المدوّنة التّراثيّة ومدوّنة (م.د.ت. ل.ع) ،منهج تحديد دلالات الوحدات المعجميّة وتعريفها في (م.د.ت. ل.ع) نسقيّة المعنى في (م.د.ت. ل.ع) الجذر اللغويّ (ج وز) أنموذجا، العمق التّاريخيّ لألفاظ اللّغة اليمنيّة القديمة: دراسة معجميّة مقارنة مع مادّة (م.د.ت. ل.ع) التّعريف في (م.د.ت. ل.ع) مقاربة مقارنة بين معجمي الدّوحة والشّارقة إلخ...
ب. الأبعاد الحضاريّة
ما من شكّ في أنّ تسمية الأشياء المحسوسة في واقع مستعمل اللّغة، والمفاهيم المجرّدة المتّصلة بتجربة الفرد والجماعة اللّغويّة في الوجود هي فعل مرتبط بالحاجة للتّعبير بوجه مّا عن متطلّبات بسيطة ومعقّدة، مشروطة بسياقات تاريخيّة وثقافيّة واجتماعيّة واقتصاديّة ونفسيّة ونحوها. واللّغة من هذا المنظور تختزل، بتكثيف عجيب، مسارات متشابكة من الخصائص الحضاريّة الّتي وسمت اللّغة البشريّة عبر رحلتها في التّاريخ. فاللّغة جسر يربطنا بموروث الأمم، ويكشف - على نحو مّا- تمثّلات أهلها للكون، وضروب تدبيرهم لمعاشهم، وطُرق تنظيمهم لعلاقاتهم على جميع الصُّعُد كشفًا تاريخيّا يمكن الانطلاق منه لوصف خصائص التّجربة البشريّة على وجه العموم.
وعلى هذا الأساس فإنّ معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، بما يوفّره من مادّة ثريّة قوامها ألفاظ مرتبطة سياقيّا وتاريخيّا بمعانيها، يعدّ موردا ثمينا للباحثين يصلح اعتماده لرصد حركة اللّغة العربيّة وأهلها في رحلتهم في بيئتهم قبل اختلاطهم بغيرهم من أبناء الأمم الأخرى، وبعد تمازجهم بهم لأسباب شتّى(جوار جغرافيّ، عوامل عقائديّة، اقتصاديّة، سياسيّة... إلخ) على نحو كيَّفَ فهمَهم للعالم، وعكس الديناميّة التّاريخيّة الّتي ميّزت حضارتهم، وجعلتهم أمّة حيّة تتكلّم لغة حيّة.
ولهذا السّبب نجد في هذه النّدوة بحوثا تدور على ما يمكن استخلاصة، اعتمادا على معجم الدوحة من أبعاد حضاريّة بمفهومها العامّ، من قبيل النّظر في: تطوّر النسق الفكريّ في الحضارة العربيّة الإسلاميّة، البعد الحضاريّ لمعجم الدوحة من خلال ظاهرة الاقتراض المعجميّ، ألفاظ الحضارة في معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، حقل اللّباس أنموذجا، ومعجم الدوحة التاريخي للغة العربية والتّصوير الحيّ للحضارة العربيّة: الإبل أنموذجًا ... إلخ.
يظلّ معجم الدوحة التاريخي للغة العربية مشروعا منفتحا على احتمال التّعديل والتّدقيق والإضافة تبعا لما يقدّمه أهل العلم في مختلف التخصّصات من رأي نقديّ نفيس بشأن الموادّ المنشورة على البوّابة الألكترونيّة للمعجم للمعجم(www.dohadictionary.org).
وما من شكّ في أنّ جعل موارد هذا المعجم مفتوحة على عموم الجمهور، يُتيح فرصة التدّخل للتّعليق والإضافة بآراء سيغتني بها دوما معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، وسيظلّ، تبعا لهذا، مشروعا حيّا مفتوحا على أهل العربيّة بلا استثناء.
وسيبقى أيضًا معجم الدوحة التاريخي للغة العربية إلى حين الفراغ من مرحلته الثّالثة، طامحا إلى أن يكون أداة علميّة عمليّة بين أيدي الباحثين، فينطلقون منه لتأصيل مفاهيمهم، وتنسيب استخلاصاتهم عند تعاملهم مع النّصوص العربيّة الّتي أنتجها أهلها أو ترجموها.
إنّ مشروع معجم الدوحة التاريخي للغة العربية هو بلا نزاع: "مشروع أمّة" تحقّقَ، وضَرَب موعدا مع التّاريخ، وسيظلّ دوما يُنصت إلى حركة التّاريخ وتغيّراته
وهكذا يرسّخ معجم الدوحة التاريخي للغة العربية منزلته في سياق المعاجم الّتي لا غنى عنها في تاريخ العربيّة، وفي سياق المعاجم التّاريخيّة العالميّة، ويؤكّد أنّه لا معرفة تاريخيّة بثقافة أمّة مّا بلا معجم تاريخيّ بأتمّ معنى الكلمة من حيث أسسه المنهجيّة والعلميّة وأهدافه وكيفيّة صوغه.
إنّه بلا نزاع: "مشروع أمّة" تحقّقَ، وضَرَب موعدا مع التّاريخ، وسيظلّ دوما يُنصت إلى حركة التّاريخ وتغيّراته.
[1] تمّ التّخطيط لإنجاز معجم الدوحة التاريخي للغة العربية على مراحل ثلاث:
*المرحلة الأولى تفحص اللّغة العربيّة من أقدم نصّ عربيّ موثّق مطبوع أو منقوش حتّى العام 200 هجريّا ( تمّ الفراغ منها، وهي منشورة إلكترونيّا).
*المرحلة الثانية من العام 201 هجريّا حتّى العامّ 500هـجريّا ( يتمّ الفراغ منها مع نهاية هذا العام).
*المرحلة الثّالثة، وهي الأخيرة، من العام 501 هجريّا إلى يومنا هذا ( وهي مرحلة مفتوحة).