من المهمّ ألا نكتفي بمتابعة العملية الإرهابية التي استهدفت الكنيستين بطنطا والإسكندرية من زاوية أثرها على استقرار النظام أو مدى تزايد الغضب الشعبي مع فشله في أداء واجب حماية المواطنين أو غير ذلك، إذ يجب ألا نغفل النظر من الزاوية المسيحية الصّرفة، باعتبار العملية استهدفت أقلية دينية في مقر عبادتها وفي بلد ذي أغلبية مسلمة، وهو ما يجعل عنصر الاصطفاف السياسي والموقف من النظام ثانويًا من هذه الزاوية أي بتخفيف عنصر التسييس حول الحادثة دون إعدامه قطعًا.
ربما يشعر المسيحي المصري اليوم أكثر من أي وقت مضى أنه محلّ استهداف، وأنه ليس طرفًا أو حتى فاعلًا
المصري القبطي المسيحي جمعًا، سواء فضّل منح الأولوية لمصريته أو مسيحيته حين التعريف، هو محلّ استهداف دائمًا وهذا من المعلوم، سواء صدر الاستهداف من الدولة أو من جماعات منظمة أو من شعور جمعي في مجال مكاني محدّد، وسواء تمظهر هذا الاستهداف في شكل عنف مادّي أو معنوي أو رمزي. فمع التسليم بالوحدة الوطنية والتآخي الديني وبقية العبارات العميقة مضمونًا والتي باتت ركيكة عند الترديد، فالمسيحي ربما يشعر اليوم أكثر من أي وقت مضى أنه محلّ استهداف، وأنه ليس طرفًا أو حتى فاعلًا. فيبدو أنه في وسط حسابات تجمع بين أزمة نظام حاكم واحتقان اجتماعي متصاعد وإرهاب معولم ودوائر استخباراتية في مجال عربي يعيش مرحلة مخاض.
اقرأ/ي أيضًا: تفجير كنيسة الإسكندرية: من يتحمل حقًا فاتورة الدم؟
هذا الحديث مخيف جدًا مسيحيًّا. بتجاوز المجال المصري، إذ يعيش مسيحيو الشرق الأوسط "محنة" في سوريا والعراق بوجود "دولة إسلامية" تعامل المسيحيين كرعايا درجة ثانية بأدوات دينية شرعية. ومصريًا، في ظرف 5 أشهر فقط تم استهداف ثلاث كنائس تاريخية في القاهرة والإسكندرية وطنطا خلفت قرابة 60 شهيدًا، حتى بات الإرهاب "هدية" للأقباط في أعيادهم. وبين الحدثين الإرهابين الأخيرين، حصلت عملية تهجير غير مسبوقة لأقباط سيناء من طرف جماعة إرهابية وتحت أعين دولة عاجزة وذلك بعد تعرّضهم لعمليات تقتيل وترويع. كما يكشف الحديث عن تورّط الأجهزة الأمنية زمن مبارك في حادثة تفجير كنيسة القديسين ليلة رأس سنة 2011 عن مدى ارتهان المسيحيين الأبرياء في الخطط القذرة.
فالمسيحي في النهاية هو من يدفع الثمن، فأن يكون الإرهاب مصدره جماعة إرهابية أو مخابرات نظام استبدادي، وأن تكون الحوادث الإرهابية المتتالية نتيجة خلل أمني غير مقصود أو تواطئ، فذلك هو ثانوي من هذا الجانب. الأقباط هم المستهدفون، بدفع من هذا أو ذاك، أو لحساب هؤلاء أو أولئك. وهم الأقباط جمعًا بمن فيهم المتديّنون وغير المتدّينين، الدّاعم فيهم لـ"الريّس" بماهو الضامن لأمن الطائفة في إطار التحالف التاريخي بين الكنيسة والدولة، أو المعارض منهم سواء الذي يؤسس معارضته على طبيعة النظام أو بسبب فشل أدائه أو غير ذلك. هو شعور لديهم بالاستهداف وأنه "ملعوب" بهم.
المسيحي في النهاية هو من يدفع الثمن، فأن يكون الإرهاب مصدره جماعة إرهابية أو مخابرات نظام استبدادي فالنتيجة واحدة
في النهاية أن تكون مسيحياً في الشرق الأوسط يعني أنك أقلية. وأن تكون أقليّة يعني أنك موضوع محاولات هيمنة وسيطرة وإكراه بعنوان أقليتك، بغض النظر عن قدرة هذه المحاولات على تحقيق هدفها، ولكن فعل المحاولة يخلّف الترويع والتخويف والإرهاب. وهو الحاصل اليوم بمنسوب أعلى من الفترات الماضية.
اقرأ/ي أيضًا: ما الذي يعنيه إعلان حالة الطوارئ "الآن" في مصر؟
وكذلك أن تكون مسيحيًا فأنت متهّم؛ متهم بأنك داعم للنظام أو أقلّه أن طائفتك ككتلة واحدة تعضد نظامًا ديكتاتوريًا، وذلك لأن موقف الكنيسة كما يرون هو موقف كل الطائفة. هكذا تبدو الصورة النهائية. وأنت تُتهّم كذلك بأنك محميّ من القوى الغربية فأنت مصري قبطي ولكنك كذلك من "مسيحيي الشرق الأوسط" كما تهرع منظمات حقوقية للتوصيف في الخارج. فأن تكون مسيحيًا، فأنت متهّم بحكم طائفتك عمومًا. ويستوي في هذه الحال "الطبّال" و"المعارض".
كما يزداد الغبن ليس فقط بتواصل قصور الأجهزة الأمنية، على فرض اعتبار العمليات الإرهابية هي نتيجة قصور أو ارتخاء أمني، بل بتوظيف النظام لهذه العمليات في تعزيز ممارساته لانتهاكات حقوق الإنسان واستهداف خصومه السياسيين. حيث بات من السهل استشراف سيناريو ما بعد كل عملية إرهابية، حتى بات الشارع ينتظر سخرية ميعاد اتهام الإخوان في قطر وتركيا بالوقوف وراء العملية. وهو ما يكشف لدى قطاع واسع من الأقباط أن العمليات الحاصلة هي جزء من معركة كبيرة هم حطبها، وهم من يدفعون ثمنها غاليًا.
الأقباط في مصر يشعرون اليوم أنهم مستهدفون ومحاصرون أكثر من أي وقت مضى، والتغني بشعارات التسامح الديني ومكافحة الإرهاب من القيادات السياسية والمجتمعية، في الدولة وفي الوسطين المسلم والمسيحي، باتت ركيكة وثقيلة، حتى باتت ضحكًا على الذقون. دولة فاشلة وقاتلة وغير عادلة ومجتمع مفكك ومهزوم و"مطحون" وسياق إقليمي قد لا يمكن وصفه إلا بأن المجال العربي يعيش مخاضًا تاريخيًا. ليظل السؤال، في أي اتجاه سيسير الشعور المتعاظم بالاستهداف والغبن والاحتقان لدى الأقباط؟
اقرأ/ي أيضًا: