وصلت درجة الحرارة يومها حدًّا لا يُطاق، فظنّ سكّان جواجيرا المؤمنون بالخرافات، كما سكّان الكاريبيّ برمّته، أنّ هناك أمرًا ما سيحدث، ولا بدّ أن يكون حدثًا جللًا. الحقيقة أنّ درجة الحرارة كانت مألوفة في المدينة الكولومبية التي تُطلّ على البحر الكاريبيّ، ولكن شيئًا ما غريبًا جعل القيظ آنذاك يبدو أمرًا جديدًا وعجيبًا أيضًا، وكأنّه يحدث للمرّة الأولى والأخيرة. لربّما عبرت هذه الفكرة رأس غابرييل غارسيا ماركيز الذي كان يكشّ الناموس عنه في غرفة فندق قذر كاد أن يموت داخلها من القيظ الذي تسلّط عليه أيضًا بينما كان يتجوّل لبيع الكتب والموسوعات الطبيّة آنذاك، أي حينما كان في العشرين من العمر.
في تأثير الجدّ والجدّة، يكمن التأثير الأقوى في خلفية ماركيز الأدبية، أي الكاريبيّ، هويته الثقافية والجغرافية التي يُعبّر عنها ويُشبهها
بعد سنوات عديدة، حينما سيُحاورهُ بيلينيو أبوليو مندوزا، سيتذكّر ماركيز قيظ ذاك اليوم، ويتذكّر أيضًا أنّه كان يقرأ حينها رواية "السيدة دالواي" للكاتبة الأمريكية فرجينيا وولف، وهي الرواية التي كان ليكون مختلفًا جدًّا عمّا هو عليه الآن لو لم يقرأ هذه الفقرة منها: " لكن لا يمكن أن تكون هناك شكوك بأنّ عظمتها كانت تشقّ طريقها، خفية، في بوند ستريت، لا تبعد سوى مسافة بعرض كفّ اليد فقط عن الناس العاديين الذين قد يكونوا الآن، وللمرّة الأولى والأخيرة، في المجال الذي يمكنهم من التحدّث إلى جلالة إنجلترا، للرمز الدائم للدولة التي ستكون معروفة لدراسي الآثار الفضوليين، التي تنتقل بين أنقاض الزمن، عندما تكون لندن طريقًا مفروشًا بالعشب، وكلّ أولئك الذين يهرعون في صباح يوم الأربعاء هذا، ما هم سوى عظام بأختام زواج ضئيلة مختلطة بالغبار وبتساقط الذهب من الأسنان المتآكلة التي لا تعدّ ولا تحصى".
اقرأ/ي أيضًا: عتبة الرواية.. كيف تفجرت حارة محفوظ وعزلة ماركيز؟
باستعادته هذه، أجاب ماركيز على سؤال مندوزا حول مدى تأثير وولف عليه ككاتب، ذلك أنّ الفقرة أعلاه حقّقت تحوّلًا في "حاسّة الوقت" عنده. ولكن، هل وولف هي صاحبة التأثير الوحيدة عليه؟ حتمًا لا، هناك العائلة أوّلًا، الجد والجدّة اللذان كانا يقصّان عليه أشياء خارقة للطبيعة، وأحداث ستظلّ حاضرة في رأسه الذي ما إن تتحرّك فيه الذكريات، حتّى تلمع صورة جدّته وأثرها عليه أيضًا، فيعود بالزمن إلى الخلف، حيث مهد الحكايات والخرافات الأولى.
يتذكّرها، الجدّة، امرأة تؤمن بالخرافات، وتملك مخيّلة خصبة لا تنضب ولا تثبط عزيمتها على التخيّل، ولا حدّ لقدرتها على إثارة رعبه ليلة بعد أخرى بقصصها الدائرة خلف المقابر. ويستحضرها بصفتها عونه الأوّل في فترة تعلّمه لهذه المهنة، أي الكتابة. فمن خلال ما كانت تقصّه عليه من حكاياتٍ لا تخلو من الفظاظة التي كانت دائمًا ما ترويها دون أن تهتزّ لها شعرة، وبطريقةٍ شعر ماركيز عندها أنّها ترويها كما لو أنّها تراها لتوّها؛ كان يقترب أكثر من حقيقة سوف يضعها نصب عينيه حينما سيكتب بعد سنواتٍ طويلة روايته الأشهر: الأسلوب الهادئ وثراء الصور لديها كانا الأكثر إسهامًا في جعل قصصها معقولة إلى حدّ كبير. وبهذا الأسلوب، سيكتب "مائة عام من العزلة".
ما إن تعود صورة جدّته من حيث جاءت، في زاوية من زوايا ذاكرته، حتّى تتقدّم صورة جدّه التي يعرف أنّها لن تكون بذلك الوضوح الذي كانت عليه صورة الجدّة، والسبب وفاته حينما كان ماركيز في الثامنة من عمره. لا يتذكّر تفاصيل الوفاة بالضبط، ولكنّه، ومنذ أن بلغ سنّ المراهقة، كان دائم الشّعور بأنّ كلّ ما يفتقده، أي ذلك الشيء الذي كان ليجعله في كامل سعادته، هو أن يعرف جدّه ماذا حدث ويحدث له. ولأنّه لم يكن يعرف، كانت لحظاته السعيدة كمراهق ناقصة دائمًا، تُعكّرها بصورة خفيفة ما يحب تسميته بـ "جرثومة الإحباط" التي ستظلّ تعكّرها دائمًا.
كان جدّه، كما جدّته، حكّاءً ماهرًا. وكانت حكاياته، على عكس حكايات الجدّة، معقولة أكثر، لأنّ أكثر ما كان يرويه بدا مُرتبطًا بذكرى ما من ذكرياته عن الحروب التي شارك فيها: الحرب الأهلية الكولومبية، وحرب الألف يوم التي حصل فيها على رتبة كولونيل في القوّات الثورية للحزب الليبراليّ. ستحضر هذه الحروب في كلّ أعمال غابو، وسيحضر الكثير من شخصية جدّه في كلّ الشخصيات الأكثر أهمّية من الرجال في قصصه، بينما تبدو شخصية الكولونيل الذي لم يسمّيه في رواية "عاصفة الأوراق" هي الشخصية الوحيدة التي تماثله، وتكاد تكون هو، فهذه الشخصية هي النسخة التفصيلية الدقيقة لكلّ من شخصية الجدّ والسحر الذي كان عليه، أي ذلك السّحر الكاريبي.
حينما تعود به ذاكرته للخلف، ويُصادف أن تكون هذه العودة متزامنة مع حديث ما عن "مائة عام من العزلة"، يتذكّر أنّ المنطلق الذي تولد عبره كُتبه، هو الصورة البصرية، وأنّ الصورة البصرية التي ولدت عبرها هذه الرواية هي: رجل عجوز يصطحب طفل ليريه الجليد الذي كان يُعرض كطرفة من طرائف السيرك. هل كان ذلك الرجل جدّك؟ سأل مندوزا، فعدّل ماركيز جلسته، ووضع قدمًا فوق أخرى، ثمّ أجاب بأنّ الأمر ليس كما خطر بباله، ليس جدّه تمامًا، ولكنّ شيئًا واقعيًا هو الذي ألهمه، فحينما كان صبيًا صغيرًا أحذه جدّه إلى السيرك لرؤية الجمل العربيّ وحيد السنام، وفي يوف آخر، قال له بأنّه لم ير الجليد رؤية العيان، فأخذه إلى مستعمرة شركة الموز، وطلب منهم أن يفتحوا صندوق من سمك البوري المجمّد، وجعله يضع يده داخل الصندوق. بهذه الذكري التي تجمعه بجدّه الكولونيل وبالأسلوب الذي كانت تروي به جدّته حكاياتها، ولدت "مئة عام من العزلة".
في تأثير الجدّ والجدّة، يكمن التأثير الأقوى في خلفيته الأدبية، أي الكاريبيّ، هويته الثقافية والجغرافية التي يُعبّر عنها ويُشبهها، والمكان الذي علّمه كيف ينظر إلى واقعه بطريقة مختلفة تقبّل فيها القوى الخارقة للطبيعة، ولكن بصفتها جزء من حياة سكّان هذا المكان الذي يفيض السحر من تاريخه، ويُرى الواقع عبره بطريقة خاصّة جدًّا، تعود جذورها أساسًا إلى خليط سحريّ بين خيال العبيد الأفارقة، وخيال السكّان الأصليين قبل دولة كولومبيا، ومذاق الفانتازيا الأندلسية، وعبادة الجاليسيانيين للقوى الخارقة للطبيعة أيضًا.
هل هناك ما يُمكن أن نضيفه إلى هذه القائمة؟ إلى جانب وولف والجدّين وسحر الكاريبي؟ هناك كافكا الذي يرتبط تأثيره على ماركيز بتأثير جدّته عليه. كيف؟ حينما كان في التاسعة عشر من عمره، يُمضي أيامه في كلّية الحقوق، كان يقرأ "المسخ"، أشهر حكايات الكاتب التشيكيّ الذي اكتشف أنّ جدّته اعتدت أن تتحدّث كما يتحدّث هو، أو أنّ الأخير يتحدّث كما تتحدّث جدّته. عندئذٍ، شعر بشيء ما يشدّه نحو الأدب، والرواية على وجه التحديد.
يظلّ التأثير الأهم لكافكا على ماركيز كامنٌ في دفعه للاهتمام بالجملة الاستهلالية التي اعتنى بها عناية تدلّ بشكل مُستمر
يظلّ التأثير الأهم لكافكا على ماركيز كامنٌ في دفعه للاهتمام بالجملة الاستهلالية التي اعتنى بها عناية تدلّ بشكل مُستمر، من ناحية التأثير لا المضمون، على استهلال "المسخ"، حينما سيستيقظ غريغور سامسا وقد أضحى خنفساء ضخمة فجأة.
اقرأ/ي أيضًا: العربيّ عند ماركيز.. مقيم ومقاوم
إنّ قائمة من أثّروا في غابرييل غارسيا ماركيز طويلة: سوفوكليس، رامبو، شعر العصر الذهبيّ الإسبانيّ، وموسيقى الحجرة من شومان حتّى بارتوك. هناك أيضًا إرنست همنغواي الذي لا يعتبره ماركيز روائيًا عظيمًا، ولكنّه في نظره كاتب قصّة قصيرة ممتاز، ترك تأثيرًا لا يُستهان به في غابو الذي يتذكّر بين الفينة والأخرى نصيحته التي تقول إنّ القصّة القصيرة مثل جبل الجليد، يجب أن يدعمها الجزء غير المرئي الذي يتلخّص في كلّ الأفكار والمواد التي تمّ جمعها ولكنّها لم تستخدم بصورة مباشرة في القصّة ذاتها. بينما يظلّ التأثير الحقيقيّ هو تأثير أعمال كاتب معيّن لدرجة أنّها تبدّل بعضًا من أفكاره، غابو، عن العالم وعن الحياة بصفّة عامّة.
اقرأ/ي أيضًا:
مئة عام من العزلة على شاشة نتفليكس.. ترقّبوا الدخول إلى ماكوندو!