أنا وإن تعلمت مؤخرًا كتمان السر والمشاعر عن الناس وحبيبتي، إلا أنني لم أتعلم بعد كتمان الأفكار والمعتقدات، فلا أزال كلما جد عندي جديد، أبعث إلى فلان كما فعل عمر بن الخطاب، فأهمس إليه "هل أكتمك سرًا؟" ثم أسبقه إلى نادي القوم فأشتبك معهم، لكنني لست بقوة عمر، أو بخيال الراوي حتى يخبر عني أنهم ضربوني وضربتهم، فأنا أكتفي بالسباب والبذاءة وحسب..
انقلبت هذه الأيام على جل ما اعتقدت سابقًا، فعاقبتني جماعتي على هذا الانقلاب، على تباينها، أيما عقاب
ولطالما أيضًا حاولت تعلم الكف عن تبرير أفعالي وانفعالاتي إلى الناس، فأحرزت في ذلك تقدمًا أرضاني، لكن صاحبتي، لا تكف عن تعليل أقوالها وتصرفاتها التي لا ترضيني، فكثيرًا ما عبرت عن ذلك بإنجليزية رديئة "stop trying to explain yourself"، مداريًا بذلك جدية ما أرمي إليه، ومحتالًا عليها أن تستهجن تطاولي على شأنها الخاص، لكنني إذ انقلبت هذه الأيام على جل ما اعتقدت سابقًا، فعاقبتني جماعتي على هذا الانقلاب، على تباينها، أيما عقاب..
فثلة أهملتني، فأهملتهم، وثلة عادتني مرتين، على طريقة السيسي في حربه على الإرهاب المحتمل، من قبل أن يوجد ومن بعد ما وجد، فاستحقرتهم كذلك كما السيسي مرتين، إذ ما كنت أقيم لهم قيمة، لا في الأولى ولا في الثانية وما كان لهم عندي إلا كل استعلاء وصد، وثلة هي مني، أحبوني من قبل أن أحبهم، وأكرموني من قبل أن أكرمهم، فكانوا لي حاميةً وعزًا، فلا أنا قادر على أن أهملهم، ولا سهل عليَّ خصامهم، فإنني وإن انقلبت على ما أعتقد، فلست منقلبًا عليهم، وإنني وإن كففت عن التبرير للناس، فليسوا كما الناس، لذلك أكتب إليهم، لا لغيرهم، ولصاحبتي.
يا ناسي، ويا صاحبتي: إن كل فكرة فارقتها هي بيت ولدت فيه رضيعًا واستوطنته حتى الشباب، فحفظته حفظ العميان لتضاريس أجساد أحببتهم لمسًا وتحسسًا، فتغيرت كل الأشياء، حتى أنا، أبعاد جسمي، ونبرة صوتي، وبُعد النظر، ولحية شائكة بَعد مُردِ.
حين أعتنق فكرة جديدة، أو ينهار مبدأ قد اتخذته، أكون كالذي قامت الحرب عليه في حلب، بلا حول ولا قوة، إلا أن هفا إلى الحرية، فانتزع من بيته وأهله، ففر إلى وطن آخر، ليس من مواطنيه، وناس ليسوا من أهله، وبيت لا يرى على حائطه العتيق صورة جده الذي مات قبل ولادته بأيام، ومع ذلك يحبه فوق أبيه وجدته، فسكن حيًا لم يحياه، يمشي في شوارعه وكل سكانه يستغربون منه، حتى وإن كانوا ودودين، يحبون لكنته الشامية، ويضربون المثل بحسن وجهه وجماله، لكن حبهم هذا وانبهارهم، هو تحديدًا، ما يذكره بأنه لم يعد في حلب!
إن كل فكرة فارقتها هي بيت ولدت فيه رضيعًا واستوطنته حتى الشباب، فحفظته حفظ العميان لتضاريس أجساد أحببتهم لمسًا وتحسسًا
إن كل فكرة غادرتها، هي امرأة أحببتها كانت لا تقبل على نفسها أن اللغة العربية لا تجمعها إلا بكلمة غريبة عن مادة المرأة، فتستاء جدًا أن يقصد بمنطوق "النساء" أو "النسوان" ما يزيد على الثلاثة من جنسها، أو أن تنادى بالـ "بنت" لو أهملت نونها، كما تضيق بترتيب المجتمع للمؤنث على حسب مكانته من المذكر ذرعًا، فلا تزال بعد أن هجرتني وتزوجت ترفض لقبها "مدام"، كما كانت ترفض "آنسة" على أيامي.
إن كل فكرة قديمة فكرت فيها، أو قناعة اعتنقتها هي فتاة أحببتها، فجهرت بحبها، وأخلصت له، ورأيت في نفسي فارسها، وطفلها، ثم غابت عني، بلا سابق إنذار أو عذر معتبر أذيعه للجمهور فيحفظ لنفسي كِبرها، ويعفيها من أن تكون "علكة" النمامين من الأصدقاء.
فإذا دفعني سوء الوحشة، ودعتني الحاجة، أجبتها إلى حسناء مترفة، هي في الجمال غَانِيَة، وفي الصوت ناي، وفي الضحكات ضحى، فائقة في كل ما تتفوق فيه النساء على تلك القديمة المُغَادِرة، لكنها ليست هي، فلا أنا أنطق لغتها، ولا هي تفهم لغوتي، فلا تستاء حين أهمل نون الـ"بنت" حين أريد استياءها، ولست أنا التواق لرِيْقها العذب الغريب على ذائقتي، فلم أزل من حسناء إلى حسناء، ولم يزل العذر إلى الجمهور مفتقدُ.
إن الإسلام كان لي خلًا، به أصبحت أيامي البريئات وبه أمسيت وعليه كنت لأموت، وإن الثورة كانت مُنيتي وهوسي، في سبيلها جاهدت، وبذلت، وفجعت في أخي، لكن الأشياء ليست كما تبدو عليه دائمًا، فإن السائرين في الطرقات وعلى أعينهم نظارات الخلود والجنة، وفي أيديهم عصا الحق المبين، ليسوا كالتائهين تغشاهم عدسات العدم والنسبية.
فيا أيها الناس، يا صاحبتي، لا حب لوطن أخرجني، ولا قُدس لفكرة مختلة، إنما القدس والحب لكم، وإنني لست رهينة من أحب أو من أكره، فنفسي لي، وكذلك أفكاري وهزائمي، لا حق لكم فيهم، لا شأن لكم بهم، حقكم أنفسكم والرابطة التي بيننا، وعهدي إليكم ألا تنقض، هي أو حبي، ما لم تمسوني بتجريح، فما دون المعتقدات والأفكار لا انقلاب عليه.
اقرأ/ي للكاتب: