تلك الصورة الشهيرة جدًا لمقبرة عظيمة، احتوت على ثمانية آلاف تمثال مصنوعة من الصلصال لجنود وعربات بالحجم الطبيعي، لا شك وأن الكثير منا قد شاهدها. صورة تشبه لحد كبير لقطة من مشهد سينمائي صور في الجحيم، تلك المقبرة الشهيرة التي اكتشفت في عام 1974 شكلت صدمة كبيرة ومثيرة لعلماء الآثار في وقتها.
صورة مقبرة تشي شي هوانغ، تشبه لقطة من مشهد سينمائي صور في الجحيم
المقبرة بنيت بكاملها من أجل شخص واحد، ذلك الشخص العجيب كان يومًا ما إمبراطور الصين المخيف تشي شي هوانغ، وتلك كانت مقبرته التي سميت باسمه، والتي اعتبرت كأعجوبة العالم الثامنة. كان ذلك قد حدث في العام 221 قبل الميلاد.
اقرأ/ي أيضًا: فيدراليتي وفيدراليتك وفيدراليتهم
ما قد يلفت الانتباه حقًا هو نزوع ذلك الدكتاتور القوي، الذي قام بتوحيد الصين كاملة في دولة شكلت إمبراطورية فذة، لبناء مقبرة مليئة بالجنود، فمن المعروف للجميع أن الكثير من الحكام كانوا يبنون صروحًا هائلة لتخليد ذكرهم، كالفراعنة وقصتهم مع بناء الأهرامات.
لقد قام تشي شي هوانغ بعمل جبار، فبعد أن تحاربت ولايات كثيرة لمدة طويلة تتجاوز 225 سنة وأرهقتها الحروب، يبدو أن ولاية "تشين" قد اقتنعت بأن الاستقرار لن يسودها بدون الرضوخ لتلك الكلمة السحرية "القانون"، حتى لو كان ذلك القانون رغبة الحاكم نفسه، وهكذا وبعد مدة تحولت تلك الولاية لقوة مخيفة انضوت تحت حكمها سائر الولايات، وكان من وحدها هو تشي شي هوانغ بنفسه، ولعل أغرب وأقبح فعل صنعه ذلك الرجل رغم كل فضائله وفضله في توحيد البلاد وضبطها، كان بحرقه لكل الكتب في ذلك العهد والإبقاء على كتب تخص الزراعة والصناعة، وذلك بغية القضاء على فلسفة كونفوشيوس نهائيًا.
حاول الشعب التخلص منه لكنهم لم يستطيعوا الإطاحة به لقوته، ولم تفلح محاولات اغتياله، لكن بعد وفاته واستلام نجله الحكم لأربع سنوات، تعرض الولد للاغتيال وتخلصت الصين من حكم الإمبراطور وسقطت الإمبراطورية.
بالانتقال لجانب آخر من الموضوع، قام مايكل هارت مؤلف كتاب "الخالدون المائة" بوضع اسم الإمبراطور الصيني الشهير تشي شي هوانغ في المرتبة الثامنة عشر لأكثر الشخصيات البشرية المؤثرة عبر التاريخ، أي أن اسمه ارتبط بأسماء رجال كالنبي محمد ويسوع وإسحق نيوتن وغيرهم.
ولو أننا أردنا البحث في أهمية تلك الفترة من حكم الرجل، لاكتشفنا أنه قد أسس لأكبر دولة من حيث عدد السكان في العالم، وأسس لاستقرارها من خلال أفكار غريبة جدًا تم تطبيقها، كتعيين قائد جيش عسكري ومعه قائد مدني، أو مستشار وذلك لكل ولاية، كي لا يستبد بالجيش أحد، ثم أحضر كل الأرستقراطيين للعاصمة وجعلهم تحت نظره تمامًا، وربط الدولة بشبكة قوية من الطرقات ليسهل قمع أي تمرد. كما أنه وحد اللغة المكتوبة في الصين ووحد النقد والمكاييل.
شتان بين دكتاتورية تبني بلادًا ودكتاتوريات تهدم البلاد فوق رؤوس أهلها
ما فعله تشي شي هوانغ في زمنه قد يعتبره الكثيرون وحشية وتحكمًا، لكن يجدر بنا الانتباه إلى أن ذلك الزعيم كان قد بدأ فعلًا بتشييد أهم إمبراطورية ستحكم الشرق الأدنى، فلقب في العصور الحديثة بنابليون الصين.
اقرأ/ي أيضًا: أجّر التاريخ وباع الجغرافيا
لا شك بأن استعراض سيرة مقبرة كمقبرة الإمبراطور الدكتاتوري، التي تحتوي رفات ثمانية آلاف جثة صلصالية، لا يمكن لها أن تقارن حاليًا بمقابرنا الحديثة، فلو ربطت تلك الصور التي سربت من سجون النظام الدكتاتوري السوري مثلا بصورة الجنود الصلصاليين، لوجدت الشبه العجيب بين جثث السوريين الحية وجثث الصينين الصلصالية.
نعم لقد خلق الإنسان من طين، فبعثت فيه الروح، يبدو تلك الروح ما زالت تكمن في تماثيل الصينين، ولكنها فارقت عشرات الآلاف من جثث المعذبين في السجون العربية، لماذا؟ قد تكون الإجابة بسيطة، لأن من يبني بلدًا أو يعمر صرحًا، فلا بد وأن يذكر في التاريخ، حتى لو كان دكتاتورًا، وشتان بين دكتاتورية تبني بلادًا ودكتاتوريات تهدم البلاد فوق رؤوس أهلها.
يذكر للإمبراطور الصيني أيضا أنه جند 300 ألف عامل بناء، لبناء سور يمتد لمسافة تقدر بـ2400 كم حول إمبراطوريته، فكان سور الصين العظيم الذي يعتبر من عجائب الدنيا السبعة. أما دكتاتوريونا العظماء فيذكر لهم بناء أضخم أسوار في العالم حول أوطانهم، أسوار وسقوف تمنع حتى الهواء من الدخول لأية عقول تحاول التفكير والتحرر.
يبقى أن نتساءل، هل يجوز لنا أن نقارن بين دكتاتور وآخر كي نظهر الفوارق، يبدو ذلك مجديًا برأيي لأنه من المعيب حقًا أن تقارن متعسفًا بحاكم عادل.
هنالك في الصين مقبرة من الطين تحلق فيها الأرواح، أما في بلداننا فالمقابر تدفن في طينها الأرواح.
اقرأ/ي أيضًا: