حين أطلقت "المكتبة الوطنية الجزائرية"، في عهد مديرها الرّوائي أمين الزّاوي، مشروع المقهى الفلسفي الذي حمل في البداية اسم محمد أركون، مطلع عام 2003، كانت النشاطات المهتمّة بالفلسفة نادرةً في الجزائر، وكان السّؤال الفلسفي مخنوقًا بالعديد من الإكراهات، منها الوضع الأمني الصّعب الذي هيمن على البلاد والعباد طيلة عشرية من الزّمن.
المدنية المعاصرة تعرف انكماشًا مخيفًا، أمام جملة من الأصوليات في الثقافات كلها
بعد عزل الزّاوي من إدارة المكتبة الوطنية، وتوقف تلك الجلسات الفلسفية، ظهرت مبادرتان استطاعتا أن تفرضا نفسيهما في المشهد الجزائري، هما جلسات "ملتقى الأنوار للفكر الحر" الذي ينشطه الباحث سعيد جاب الخير في الجزائر العاصمة، والندوات التي تنظمها "الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية"، بإشراف أساتذة وباحثين جامعيين متخصّصين في الفلسفة، في أكثر من مدينة، ورغم محدودية الانتشار، إلا أن هذين المنبرين عملا على إثارة جملة من الأسئلة الجادّة التي تعني الإنسان والمكان في الجزائر.
اقرأ/ي أيضًا: 7 أسباب لكذب قادة الدول
في السّياق، بادرت جمعية "موزاييك للفنون والثقافة"، في مدينة بسكرة، 400 كيلومتر جنوبًا، قبل أيام قليلة، بإطلاق مقهى فلسفي حمل اسم الفيلسوف الجزائري كريبع النبهاني، تلميذ غاستون باشلار ولويس ماسينيون، وصاحب العديد من المؤلفات التي كانت سبّاقة إلى طرح السؤال الفلسفي الحديث في الفضاء الجزائري، منها "أفارقة يتساءلون" (1954)، و"إنسان عالمي" (1966)، و"فلاسفة الإسلام" (1984).
وحظيت هذه الالتفاتة إلى الفيلسوف الذي رحل في صمت عام 2004، بترحيب نخبة كبيرة من الكتّاب والباحثين، منهم الباحث حميد زناز الذي كتب أن النبهاني يعدّ من العقول الكبيرة التي أنجبها القرن العشرون، في جزائر دمّرها الاحتلال في نصفه الأوّل وما قبله، ودمّرها الاحتفاء بالجهل في نصفه الثاني.
يتسلّل التطرف إلى مدنيتنا الحديثة لكونها أهملت العدالة واحترام الإنسان
اقرأ/ي أيضًا: نوال السعداوي.. ممنوعة في الخامسة والثمانين!
قال الباحث أحمد الدّلباني الذي كان ضيف العدد الأوّل من المقهى، في جلسة خصّصت لكتابه الجديد "مفاتيح طروادة: كتابات في أزمنة الهويات المغلقة"، إن المدنية المعاصرة تعرف انكماشًا مخيفًا، أمام جملة من الأصوليات في الثقافات كلها، "بحجّة تأكيد الخصوصية والتشبّث بقشة الهوية الضيّقة في محيط التاريخ الأهوج"، في مقابل فشل العقل الحداثي، بسبب مآزقه المختلفة، في مواجهة هذا الانغلاق.
وأضاف الدلباني أن المرحلة الحضارية الرّاهنة باتت حاضنةً للتطرف بامتياز، "وهو يكشف بصورة عميقة عن بعض أزمات حداثة عولمية لم تصل بعد إلى نهاية سعيدة للتاريخ الأرضي"، هذا يعني، بحسبه، أن التطرف ما فتئ يعرف كيف يتسلّل إلى حياتنا، من الشقوق والتصدّعات في جدران مدنيتنا الحديثة التي أهملت العدالة واحترام الإنسان وغرقت في الصّراع الأهوج من أجل الهيمنة.
اقرأ/ي أيضًا: