الجميع يُحارب الفساد في تونس، فالجميع يدّعي ذلك، حتى بات الحديث عن مكافحة الفساد حديث من لا حديث له. المشهد بالنهاية جميل، ويعكس لوهلة أولى التزام القوى الفاعلة في البلاد بمحورية هذا الملف في تركيز نظام يقوم على الحوكمة والشفافية يرافق عملية البناء السياسي الديمقراطي، ويُسهم في تجاوز الأزمة الاقتصادية.
فإن لم يكن تطهير البلاد من الفساد مطلوب لذاته، فالأزمة الاقتصادية الخانقة تستلزمه، خاصة وأن تركة الفساد من النظام القديم هي السبب الرئيسي للأزمة الحالية، والتقديرات تؤكد بأن كسب معركة مكافحة الفساد ستمكن من تحقيق نسب نمو مرتفعة.
منذ انتخاب الائتلاف الحاكم الحالي تم كشف عديد من ملفات الفساد تورط فيها وزراء، منها فضيحة بنك لازار مع وزير الاستثمار السابق
في اتفاقية قرطاج التي تمثل أرضية عمل الحكومة الحالية، تم تخصيص محور خاص حول مكافحة الفساد. كما تمّ إرساء وزارة خاصة لمكافحة الفساد بالتزاوج مع حقيبة الوظيفة العمومية، وهي وزارة تم الغائها على إثر الازمة السياسية الأخيرة المنجرّة عن تحوير وزاري لقي تحفظًا من اتحاد الشغل، الشريك الاجتماعي الرئيسي للحكومة.
اقرأ/ي أيضًا: مكافحة الفساد في تونس.. يسخرون منّا
ورغم هذه الصورة الوردية للحديث المتواتر عن مكافحة الفساد، فجميع المؤشرات تشكك حقيقة في جدية الطبقة الحاكمة في ذلك، إذ لم تكن تصريحات عبيد البريكي وزير الوظيفة العمومية والحوكمة المُعفى مؤخرًا إلا تأكيدًا لذلك، حينما كشف عن جملة ملفات فساد لم يتعامل معها رئيس الحكومة بجدية. وفي الواقع، لم يكن المعلن من باب المفاجئ ذلك أن جميع التأسيسات العملية لا تحيل إلا لذلك.
فنحن إزاء طبقة حاكمة ينخرها الفساد المالي وفاقد الشيء لا يعطيه، فكيف يُمكن مطالبة طبقة سياسية حاكمة قوامها الفساد أن تقود معركة مكافحة الفساد؟ من يضحك على من؟
منذ هروب الرئيس المخلوع، عمل رجال الأعمال الفاسدون على تحصين أنفسهم من خلال انخراطهم في المشهد السياسي الجديد بقواعده المفروضة، حتى باتوا عرابين لحكومات وأحزاب. استطاع هؤلاء رجال الأعمال تحقيق اختراق سهل الولوج في المشهد بما في ذلك عبر أحزاب "نضالية" سابقًا، وذلك بالإضافة لأحزاب الجديدة بما فيها الحزب الحاكم الحالي الذي يمثل استخلاصًا الواجهة الحزبية للنظام القديم.
فلم يكن من قبيل الصدفة أن يدعم جميع رجال الأعمال المتورطين في ملفات فساد مالي هذا الحزب بل ويترشحون على قوائمه التشريعية لضمان حصانة برلمانية مُضاف إليها الحصانة السياسية المُؤمنة بطبعها.
في ظرف سنتين منذ انتخاب الائتلاف الحاكم الحالي، تم كشف عديد ملفات الفساد التي تورط فيها وزراء، منها فضيحة بنك لازار مع ياسين إبراهيم وزير الاستثمار السابق، وفضيحة صفحة اتصالات مالطا التي تورط فيها نعمان الفهري وزير الاتصالات السابق، بل آخر الفضائح تعلقت بوزير التجهيز في ملف المسكن الأول.
منذ هروب بن علي، عمل رجال الأعمال الفاسدون على تحصين أنفسهم من خلال انخراطهم بالمشهد السياسي التونسي الجديد بقواعده المفروضة
وتتعلق صورة الفساد تحديدًا بملف اجتماعي يقضي بتقديم دعم لمحدودي الدخل من أجل تسهيل عمليات شراء المسكن الأول، بيد أن الوزارة وضعت شروطًا لاحقًا تفرض على المشترين اقتناء مساكن من مؤسسات عقارية خاصة يملكها رجال أعمال مقربين من السلطة، وهو ما تم التراجع عنه بعد كشف خيوط هذه الفضيحة.
طبعًا ما تم الكشف عنه طيلة هذين السنتين تم أساسًا بفضل الرقابة البرلمانية أي أن المكشوف هي ملفات كبيرة استلزمت المرور عبر البرلمان، فما بالك بتلك الملفات المخفية والتي تمت في الغرف المغلقة.
يمثل الإفلات من العقاب حليفًا موضوعيًا للفساد، وفي تونس الإفلات من العقاب هو المبدأ، وهذا ما تؤكده مصادر موضوعية آخرها بيان صادر عن الخبير الأممي المكلف بمعاينة آثار الدين الخارجي على حقوق الإنسان وذلك إثر زيارته إلى تونس.
وللإفلات من العقاب غطاء سياسي مُعلن منذ تقديم رئيس الجمهورية لمشروع قانون للمصالحة الاقتصادية صيف 2015 يقضي بالعفو على المتورطين في ملفات الفساد المالي بطرق ملتوية وغير شفافة. تحدث البريكي الوزير المُعفى مؤخرا عن شواهد كثيرة في هذا الجانب منها عدم تتبع مهرّبين كبار للمرجان بين تونس والجزائر رغم القبض عليهم في وقت سابق.
اقرأ/ي أيضًا: ضرب المسؤول و"هيبة الدولة" في تونس
آخر الطرائف هو اصدار أحزاب سياسية حاكمة ومعارضة لبيانات رافضة لحكم قضائي الأسبوع الفارط يقضي بسجن مسؤولين عموميين إضافة للمخلوع بن علي في ملف فساد.
فكيف يمكن لهذه الأحزاب أن تقود حرب مكافحة الفساد، خاصة وأن أحداها وهو حزب آفاق تونس المشارك في الائتلاف الحكومي دعا ببساطة لسن قانون يقضي بايقاف التتبعات أو المحاكمات أو تنفيذ العقوبات في حق الموظفين العموميين من أجل أفعال قاموا بها قبل الثورة عدا الرشوة والاستيلاء على الأموال العمومية.
يمثل الإفلات من العقاب حليفًا موضوعيًا للفساد، وفي تونس الإفلات من العقاب هو المبدأ
في هذا الجانب، تحمل تجربة العدالة الانتقالية في تونس ميزة خصوصية مقارنة بجميع التجارب السابقة في العالم، وهي اخضاع ملفات الفساد المالي وعلى رأسها اختلاس الأموال العامة ضمن آليات العدالة الانتقالية التي تستهدف ضمن قانونها تفكيك منظومة الفساد في تونس وضمان عدم تكرارها. بيد أن مسار العدالة الانتقالية الذي تقود تنفيذه هيئة الحقيقة والكرامة لا يحظى بغطاء سياسي جدي من أجهزة الدولة وممثليها السّاميين.
نحن إزاء طبقة سياسية حاكمة ترفض كشف الحقيقة في ملفات الفساد المالي في إطار العدالة الانتقالية، وترفض محاكمتهم خاصة في ظل تعطيل المعالجة القضائية لهذه الملفات. ورغم ذلك تدعي هذه الطبقة أنها تحارب الفساد.
سياق تفعيل مقتضيات البناء المؤسساتي في المناخ الديمقراطي لا يدفع إلا نحو مكافحة الفساد ضرورة، ولكن الطبقة السياسية الحالية لا تزال تفتقد لمقومات هذه المكافحة بصفة جذرية فهي عاجزة عن تفكيك منظومة الفساد لأنه ببساطة جزء هام من هذه الطبقة هو صنيعة هذه المنظومة وبالتالي حاميتها.
الإرادة السياسية هي كلمة مفتاح، هناك إرادة فعلا لتقليم انتشار الفساد الذي نخر اقتصاد البلاد، ولكنه لا توجد إرادة بعد لاقتلاع هذا الفساد من جذوره. المعركة لازالت طويلة، وهي محدّد في تحصين التجربة التونسية مستقبلًا.
اقرأ/ي أيضًا:
تونس في يوم العمال.. حدثني عن الفساد
تونس ذلك السجن الصغير