غريب.. كيف يضع بعض الناس مكتباتهم في غرف المعيشة أو صالات استقبال الضيوف! هناك حيث يمكن لأي ضيف أو قادم إلى البيت أن يراها بسهولة. أن يطالع العناوين ويقلّب نظره بين الرفوف، أن يعرف ما يقرؤون!
عند دخولي لبيوت الآخرين ووقوفي أمام مكتباتهم المعروضة بسفور، أستطيع رصد تاريخ اهتماماتهم المعرفية والثقافية
أغلب الظن أنهم يتباهون بها، أو يرونها إضافة جمالية على المساحة العامة في البيت. ربما للزينة، أو لأغراض تحريك الحوار مع الضيوف السكوتين، أو لتقديم معلومات مجانية عن اهتماماتهم. ما أعرفه أن المكتبة شيء خاص، خاص جدًا، والكتب شيء من أصحابها. وجودها في متناول الآخرين يعني أن جزءًا شاسعًا منهم بات مكشوفًا.
عند دخولي لبيوت الآخرين ووقوفي أمام مكتباتهم المعروضة بسفور، أستطيع رصد تاريخ اهتماماتهم المعرفية والثقافية، أن أرصد تحولاتهم الفكرية وتطور ذائقتهم الأدبية. يمكن أن ألتقط نقاط ضعفهم المعرفي، وفجوات تحصيلهم العلمي، أين بدأوا وأين توقفوا.
من الغبار على بعض الزوايا وقليل من الفوضى في رفوف أخرى أعرف بماذا هم منشغلون الآن وكم مضى على تركهم انشغالًا قديمًا. توفر طبعات مختلفة من كتاب واحد تقول الكثير عن انشغالهم العلمي به، أو هوسهم به أو بصاحبه.
وإن اقتربت أكثر ونظرت في الأغلفة وحواف الصفحات، أدرك من نوعية الكتب أي قراء هم، قراء الثقافة العامة أو المعرفة الرصينة العلمية. سأعرف عادات قراءتهم وأوقاتها من أنواع البقع المستقرة على حواف الكتب. ومن تعقب آثار الاستعمال وطريقة طي الصفحات ووضع الكتب على الرفوف سأعرف إن كان يشترك في استخدام المكتبة أكثر من شخص واحد، أو أنها سرّ صاحب واحد فقط.
أعرف أولئك الذين تخلصوا من أجزاء من ماضيهم، تخلصوا من كتب البدايات باستخفاف الخونة، أولئك الذين يظنون أنهم قادرون على إخفاء الكيفية التفصيلية لبلوغهم ما بلغوا معرفيًا وثقافيًا. الكتب تفصح عن بعضها، وتقول لفاحص خبير يقف أمام رفوف مكتبة: "لم يبلغني إلا حين مرّ بذاك الكتاب وذاك"، أو "أنت تعرف أنه لا يمكنني الوقوف هنا هكذا معلقًا في الهواء، كان قبلي كذا وكذا". وأسرع ما يمكن اكتشافه تلك الكتب الممتهنة برغبة صاحب المكتبة بالاستعراض، الكتب التي لم تقرأ ولن تقرأ، ذات الأغلفة البراقة والأوزان الضخمة والأسماء الرنانة، رؤيتها معروضة دون أن تمسها يد ولا عين، تعني أن لا شيء يستحق الوقوف أمامه لا في المكتبة ولا صاحبها.
وقوفي متأملًا أمام مكتبة أحدهم يعني أنني معنيّ به، مشغول بالتساؤل حوله، لست مشغولًا بالكتب فقط، ولماذا سأكون مشغولًا بمن يعرض مكتبته عليّ بكل تلك البساطة، بل لماذا سأنشغل بمن لا يعرف سر المكتبات!
من يظنون المكتبة مجموعة كتب، لا يعرفون الكثير من أسرار المكتبات
ولذلك أحزن حين أسمع عن أحدهم يعرض مكتبته كاملة للبيع، أحزن لانه اضطر إلى بيعها، وأحزن لكل الانكشاف الذي بات معرضًا له أمام المشتري. أحزن أيضًا على أولئك الذين سيشترونها لغير أغراض التجارة، أولئك أبعد ما يكونون عن فهم منطق المكتبات الحميم. كشيء ينمو معنا وبنا ويشبهنا.
قد يكون كابوسًا أن أستيقظ لأجد مكتبة أحدهم مكان مكتبتي، حتى لو كان أهم مثقف في الوجود، الكتب شيء والمكتبة شيء آخر، من يظنون المكتبة مجموعة كتب، لا يعرفون الكثير من أسرار المكتبات.
ليس الإنسان وحده من يمكن اكتشافه من مكتبته، كذلك الدول والأمم، يمكن أن تعرف كل ما تريد عن دولة ما بمجرد زيارة مكتبتها الوطنية، المكتبة الوطنية تشبه الدولة، بل هي صورتها.
ولذلك كله، لا بد من وجود مكتبتك في مكان خاص، وقصيّ بعيد عن الأنظار، حتى يغدو عرضها لصديق أو حبيب مناسبة مميزة ومحفوفة بالاحتمالات والمخاطر. ولا يصح ذلك مترافقًا مع نشاط آخر، بل كنشاط خاص ووحيد، دون مكدرات ولا معكرات.
لا يصح أن نأكل ونمضغ ونتمخط وحولنا الكتب، نتحدث في أي شأن ونرمقها بطرف أعيننا وكأنها شيء تكميلي. يجب أن نذهب إليها، أن يكون هنالك فعل مستقل موضوعه المكتبة. كأن تكون في نهاية ممر طويل أو في نهاية درج نصعده أو ننزله، وهناك عندما نصلها نقف طويلًا وقد نجلس لنتطلع إليها.
ولكن حتى لو وجدت من يستحق هذا التشارك المميز الخطير، عليك أن تحذر من مدة مكوثه أمام مكتبتك. كلما طالت المدة أكثر، صرت معرضًا لانكشاف أكبر. وإن كان ذا جرأة ويد طويلة، سيغلبك وينبش فيك.
لست بحاجة لأحذرك من وقوف امرأة أمام مكتبتك، عشيقة ممكنة تفكر في لحظة ضعف بكشف سر أمامها أو التباهي بمكتبك بحضورها. هذه الخطوة يجب أن تتأخر قدر الإمكان، المكتبة ليست مما تقدمه لإثبات غيره، بل تقديمها لأية كانت بحاجة لكثير من إثباتات الاستحقاق. وقبل ذلك احتمالات عالية لجدية ما تنويه حيالها. ستعيش عمرك كله أمام مكتبتك فلا تسمح لأي امرأة بتعليق الذكريات عليها ودسها بين الكتب، لأنك ستندم كثيرًا ولن تجد مهربًا منهن.
لكل هذا، لا تضعوا مكتباتكم في متناول ضيوفكم العاديين ولا تعرضوها لكل عابر، كما تتسلى العجائز الملولات باستعراض أطقم فناجينهن القديمة.