ألترا صوت – فريق التحرير
يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.
إبراهيم درغوثي قاصّ وروائيّ تونسي. من أعماله القصصية: "منازل الكلام" و"المرّ... والصّبر"، ومن أعماله الروائية: "مجرد لعبة حظ"، و"وقائع ما جرى للمرأة ذات القبقاب الذهبي"، و"كلاب الجحيم".
- ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟
كل الظروف الموضوعية التي أحاطت بي، كطفل ولد لعائلة فقيرة من الأمّيين، ما كانت تساعد على أن تكون لي علاقة بعالم الكتاب. فالوالد ما كان يفك الحرف ولا أحد من العائلة الموسعة كان على قرابة بالقراءة والكتابة، بل كان الجميع من الفلاحين المفقرين الذين يؤدون صلواتهم بقصار سور القرآن ومع ذلك أصر أبي إلحاحًا على أن أقتحم أسوار المدرسة الابتدائية في بداية ستينات القرن الماضي، عندما كان التعليم ترفًا لا يقدر عليه سوى أبناء الأغنياء والمرفهين. هذا التواجد في المدرسة كان الفرصة الأولى التي أتيحت لي لأكون على علاقة مباشرة بالكتاب لأنني قبلها كنت على علاقة غير مباشرة به. ففي الكتّاب حيث كنا نحفظ القرآن كان الشيخ المؤدب يتلو على مسامعنا ما تيسر من السور وكنا نستجيب له بالحفظ سماعًا، بينما يظل "الكتاب" بعيدًا عنا، في ركن قصي، على مائدة صغيرة، داخل قطعة قماش خضراء.
إن صوت المؤدب ما زال يتردد في أذني حتى الآن عندما كان واحد من "طلبة العلم" كبار السن، كما كان الأهالي يسمون أطفال المدارس القرآنية، يسمح له بالقراءة من "الكتاب" وهو يقول له: هل أنت "طاهر يا ولدي؟ فهذا الكتاب لا يمسه إلا المطهرون"، ويرد الطالب: نعم يا مولاي! فيسمح له سيدنا بتصفح الكتاب وتلاوة القرآن بصوت عال وسط جلبة الصغار.
هذا الكتاب الأول علمني الخوف من الكتب واحترامها في نفس الوقت. وهو شعور ما زلت احتفظ به حتى الآن، ولن يموت في قلبي حتى آخر نفس في الحياة.
الكتاب الثاني في حياتي كان نقيض الأول، فقد كانت تتداوله الأيدي كل ليلة دون توقير ولا احترام، إذ كانت أوراقه ممزقة ومهترئة، وحين يسقط بعضها على الأرض لا يثير تلك الرهبة في النفس، ولا ذلك التقديس الذي رأيته في التعامل مع الكتاب الأول. كان يرمى في أي مكان بعد القراءة منه بإهمال شديد، رغم المتعة التي كان يقدمها قبل قليل لكل السامعين الذين كانوا يتابعون حكاياته في صمت عندما يختلي المحبوب بالمحبوب، أو في صخب عندما تقرقع السيوف وتتصادم الرجال بالرجال في ساحات الوغى. وقد عرفت عندما أصبحت أفرّق بين الحق والباطل أن هذا الكتاب هو "ألف ليلة وليلة"، وأن ما كان يثير المستمعين في تلك الجلسات القرائية هي حكايات الليالي.
ومن خلال هذين الكتابين المقدس والمدنس جئت إلى عالم الكتاب، وعشت بينهما شيطانًا يسترق السمع إلى تراتيل الملأ الأعلى تحت سدرة المنتهى في انتظار الشهب الراجمة حينًا، وملاكًا يرتل التسابيح في ملكوت الرب حينًا آخر.
- ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟
هي مجموعة من الكتب لا كتابًا واحدًا، لأننا نعيش حيوات كثيرة لا حياة واحدة تتجدد كل مرة كلما مررنا إلى عمر جديد وتجارب جديدة، نعيشها ونحن في حالاتنا النفسية المختلفة. بدأت وأنا طفل بروايات جرجي زيدان التاريخية، ومن خلال كتاباته السردية عشقت التاريخ والكتابة التاريخية ولا زلت حتى الآن اعتبره واحدًا من أساتذتي الكبار. ثم اكتشفت وأنا مراهق الأدب الروسي العظيم من خلال اكتشافي للماركسية في حلقة نضال شبابية تعلمنا فيها الأيدولوجيا، ولكن تعلمنا فيها الأدب أيضًا. والغريب في الأمر أنني اهتممت بالأدب الماركسي أكثر من اهتمامي بالمادية التاريخية والمادية الجدلية. ومن هنا كان عشقي لرواية "الأم" لمكسيم غوركي التي صارت كتابي المقدس لفترة طويلة من شبابي. ولم تضع في زحام الذاكرة إلا عندما اكتشف في ثمانينات القرن الماضي أدب أمريكا اللاتينية من خلال رمز من رموزه الكبار غابرييل غارسيا ماركيز. ولئن قرأت جل أعماله المترجمة فإن "مائة عام من العزلة" تظل الرواية التي عبثت بي أكثر من غيرها.
هل أنكر أن دوستويفسكي كان واحدًا من معلمي الكبار أيضًا، وأن البرتغالي خوسيه ساراماغو صاحب رواية "العمى" أيضًا أنار لي سبل المشي في ظلام الكتابة الإبداعية، وأن سلمان رشدي صاحب "أطفال منتصف الليل"، التي قرأتها مترجمة إلى الفرنسية، أخذ بيدي في دهاليز الإبداع، وأن نجيب محفوظ الروائي في كتاباته الجديدة بعد الثلاثية يعتبر أستاذي العربي مع صاحب "مدن الملح" عبد الرحمن منيف.
القائمة طويلة تكاد لا تنتهي، ولكنني سأقف عند هذا الحد هذه المرة.
- من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟
في وسط كل هذا الكم من الكتاب العرب والأجانب، قد أفاجئ القارئ بجواب غير منتظر لأن كاتبي المفضل أديب مبدع تونسي ربما لا يعرفه الكثير من القراء العرب، لأننا في تونس لا نعرف كيف نصنع "النجوم الزاهرة"! فكم من كبير قتلناه بالإهمال (وهذه حكاية أخرى ليس الآن وقتها) لأعود للقول بأن كاتبي المفضل هو البشير خريف صاحب رواية "الدقلة في عراجينها". هذه الرواية التي كتبت في ستينات القرن الماضي هي عالم إبداعي في حد ذاتها من حيث شكلها ومضمونها. احتفل فيها الكاتب على شاكلة كتاب الواقعية الكبار بمكان وبشخصيات لا يوجد مثيل لها في كل الدنيا: بلاد الجريد وناسها ولغلتها وعاداتها وتقاليدها وأفراحها وأتراحها، حتى يصبح في مقدور الباحث في كل العلوم الإنسانية أن يجد له بابًا يلج منه إلى هذه العلوم من خلال هذه الرواية، مع الاستمتاع بحكاية تشد القارئ شدًّا ولا تترك له فرصة للخلاص منها إلا بعد نقطة النهاية.
- هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟
في العادة اكتفي بالقراءة وما يترسب منها في الذاكرة المنفعلة بالأحداث والشخصيات والوقائع، ولا أهتم بتدوين الملاحظات أو الملخصات لأنها تكسر تتابع انفعالاتي القرائية، لأن القراءة عندي فعل وجداني يخاطب الروح والقلب في نفس الوقت الذي يخاطب فيه العقل، ومن خلال هذا الثالوث تترسب في الذات القارئة ما يريد المبدع تبليغه من رسالات للمتلقي، لذلك أرى أن تدوين الملاحظات والمخلصات عما أقرأ بلا فائدة وقد يكون مضيعة للوقت لا أكثر ولا أقل.
- هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟
كثيرون يشتكون من دخول الكتاب الإلكتروني لساحة القراءة، ولكنني شخصيًا أرى العكس. فالكتاب الإلكتروني سهّل علينا الحصول على الكتب التي ما كان بمقدورنا الحصول عليها. ووفرها لنا في بيوتنا بمجرد ضغطة على زر الحاسوب. قد يبدو الأمر طبيعيًا جدًا لمن هو على علاقة بعالم القراءة ويعرف أن المرور من حال إلى حال يصعب على الإنسان ولا يطيقه، من ذلك مثلًا أنه كان صعبًا قبول الكتابة على الورق مقابل الكتابة على الرق، ولكن بمرور الزمن عرف الإنسان أن هذه التقنية الجديدة في الكتابة ستحدث ثورة في تقبل العلوم والآداب. وأنا شخصيًا أرى أن الكتاب الالكتروني سيحدث ثورة أعظم في عالم القراءة والكتابة. قد يتطلب الأمر بعض الوقت وبعض الرخاء الاقتصادي حتى تتوفر الشروط اللازمة لذلك ولكنه آت لا محالة.
أما عن علاقتي بالكتاب بعد ظهور الكتاب الإلكتروني ودخوله في عاداتي القرائية فقد استبشرت كثيرًا بالأمر، وما عدت استثقل القراءة من الحاسوب، بل بالعكس أصبحت أيسر حالًا من القراءة الورقية، ثم إن هذا الكتاب فتح في وجهي الأبواب وسيعة على كل مكتبات العالم أقتني منها بالمجان ما أنا في حاجة إليه.
- حدّثنا عن مكتبتك؟
بدأت تجميع الكتب منذ نصف قرن وأنا تلميذ بدار المعلمين بتونس في سبعينات القرن الماضي وهي الآن تعد واحدة من أهم المكتبات الخاصة بولاية قفصة، إن لم تكن أهمها على الإطلاق. وهي تحتوي على حوالي خمسة آلاف كتاب في كل الفنون: رواية وقصة قصيرة وشعر ونقد وفكر، ومجلدت خاصة بكتب التراث، وموسوعات تاريخية ومناجد وترجمات لأهم الروايات العالمية وغير ذلك. كما تحتوي أيضًا على آلاف المجلات التونسية والعربية والأجنبية.
أذكر أن الكتب الأولى التي اشتريتها ببضع مئات من الملاليم كانت من نهج زرقون في تونس العاصمة، أثناء غدونا ورواحنا على نهج سيدي "عبد الله قش" (حيث يوجد المبغى العلني) الذي أوحى لي بكاتبة واحدة من أجمل قصصي القصيرة تحمل عنوان "رجل محترم جدًا" وتدور أحداثها في المبغى، وهي كتب مختلفة تراثية حيث اكتشفت كتاب "الروض العاطر في نزهة الخاطر" للشيخ النفزاوي و"الإيضاح في علم النكاح" و"عودة الشيخ إلى صباه".. وكتب أخرى ممنوعة من التداول الآن ضمن طبعات شعبية قديمة كما كانت توجد بقايا مكتبات الفرنسيين والايطاليين والمالطيين ويهود تونس الذين هاجروا من البلاد بعد الاستقلال، أو بعد حرب الايام الستة سنة سبعة وستين. وكانت تعرض يوميًا على قارعة الطريق كما هو الحال الآن في نهج الدباغين، ثم توالت الشراءات من معارض الكتاب في تونس والقاهرة والجزائر والدار البيضاء ودمشق وغيرها من مدن العالم التي زرتها.
- ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟
أنا الآن بصدد إعادة قراءة رواية "قواعد العشق الأربعون" للكاتبة التركية ألف شافاك التي قرأتها أول مرة منذ سنتين، ولكنني لاحظت أن القراءة الأولى لم تشف غليلي. ففي العادة الرواية التي أنتهي من قراءتها تجد لها مكانًا في أرشيف الذاكرة، ولكن هذه الرواية المدهشة ظلت تراوح بين الغياب والحضور، ففضلت أن أقتلها بالقراءة مرة ثانية لعلها تصمت عن مخاتلتي ومراوغة هذه الذات التي لا تكف عن استذكار الجميل من النصوص.
اقرأ/ي أيضًا: