لطالما تطلع القادة الاستبداديون إلى ذلك الاتحاد السريع بين الكلمة والفعل، على طريقة "كن فيكون"، إذ لا يتعامل الدكتاتور مع الوقائع والحجج العقلانية، بل فقط بالقوة الغاشمة التي تجعل من كلمته قانونًا، يحوّل كل ما قاله أو خطّه إلى عمل ملموس، بغض النظر عن مدى معقوليته أو نفعيته أو إن كان يحتاج لمزيد من النقاش، فالدكتاتور غير ملزم بأي شيء سوى بإرادته. إنه الشخص الذي إذا تكلم تحولت كلماته بالقوة إلى واقع.
عندما نستكشف "الأدب الاستبدادي" نسقط في مفارقة غريبة، وهي أن الكثير من هذه الكتب سيئة بشكل لا يصدق
"ما هي الفروق الطبيعية بين الرجل والمرأة؟ المرأة أنثى، والرجل ذكر"، هذه ليست مزحة للضحك وإنما مقتطف من "الكتاب الأخضر" للزعيم الليبي معمر القذافي الراحل سنة 2011، هذا الكتاب الذي أدخله الزعيم إلى مناهج التعليم وأصبح لزاما تدريسه من المرحلة الابتدائية وحتى الجامعية ضمن مادة "الفكر الجماهيري"، وفرض ترديده في نشرات الأخبار الوطنية، وازدانت الشوارع الليبية والمحلات والإدارات بمقتبساته.
اقرأ/ي أيضًا: صورة الدكتاتور
كتب الدكتاتور الذي حكم ليبيا قرابة أربعة عقود كتابه الأخضر سنة 1975، وهو من بين أكثر المنتجات الأدبية غرابة، أراد فيه القذافي أن ينزل تهيؤاته الشخصية إلى فلسفة خالصة خاصة بليبيا، وبالفعل جعل كتابه الأخضر دستورًا للبلاد، قبل إسقاط نظامه وقتله في ثورة شعبية، ويتحول كتابه إلى شهادة مثالية من "الأنا المتضخمة والوهم" الذي يميز الدكتاتوريين.
عندما نستكشف "الأدب الاستبدادي" للقادة الدكتاتوريين عامة، نسقط في مفارقة غريبة، وهي أن الكثير من هذه الكتب هي في نفس الوقت سيئة بشكل لا يصدق، ومع ذلك فهي من أكثر الكتب مبيعًا، بما فيها كتاب القذافي. بالطبع ليس بسبب شعبيتها أو جودتها، ولكن لأنها فقط مكتوبة من قبل الزعماء.
على الرغم من أن الكثير من هذه الكتب غير قابل للقراءة، لكونها ممتلئة بالإطناب وغير مفهومة بوضوح، فإن الدكتاتور العظيم يحوّل كلماته إلى وثيقة مقدسة وقانون يسري على ملايين الناس من رعاياه. في كل الأحوال من يجرؤ على انتقاد كلماتك، حتى لو كانت ترّهات مجنونة، إذا ما كنت تحكم بقبضة من حديد.
ويمكن التمييز بين نوعين من الكتاب الدكتاتوريين: أولئك الذين استخدموا كتاباتهم في طريق صعودهم إلى السلطة، وأولئك الذين بدأوا النشر فقط عندما وصلوا السلطة. ويبدو أن النوع الأول، الذي يندرج فيه موسوليني ولينين وهتلر، لديهم شيء من الجاذبية الأدبية والمفهومية في كتاباتهم، حتى لو أنها مملوءة بالوحشية، مما ساعدهم في نشر رسالتهم وتوسيع شعبيتهم للوصول إلى السلطة. في حين تبدو كتابات النوع الثاني بلهاء وسخيفة، ومخلفات صدام حسين ومعمر القذافي وكيم جونغ خير مثال.
وسر ذلك يكمن في أن العديد من السياسيين يكتبون الكتب، من أجل الحصول على شكل من الشرعية وكجزء من التحضير للوصول إلى السلطة، وهو تقليد عريق وسط العالم الغربي بالتحديد، لذلك عادة ما يحرصون على أن تكون كتابتهم تحتفظ بالحد الأدنى من اللياقة الأسلوبية. لكن في حالة الديكتاتور الجاهل، فهو لا تؤرقه مثل هذه المخاوف المتعلقة بالشرعية والشعبية، وإنما يكتب استجابة لنرجسية "الرجل القوي" داخله، فيسعى إلى تحويل ما يخطه إلى أفعال نافذة فورية دون أي حاجز، إنه يحاول من خلال كلماته أن يصنع عالما يدور حوله ويضمن له الخلود.
إذا كان هناك درس يمكن أخذه من مكتبة المستبدين، فهو أن "التعبير البارع عن الحقائق العظيمة" ليس الطريق الوحيد للوصول إلى الكتابة الخالدة
تقريبًا كل تلك الكتب التي تجسد "الأنا الاستبدادية"، تتلاشى قيمتها بعد ثانية من وفاة "المرشد القائد"، ويفقد النص المقدس أثره في الواقع بمجرد موت الزعيم، وإن بقي يغري فضول الناس بالاطلاع عليه. وهكذا تحوّل مؤلف "الكتاب الأخضر" من دستور ليبيا الممجد إلى كتاب "محظور" مباشرة بعد إسقاط نظام معمر القذافي.
اقرأ/ي أيضًا: ماذا لو كان شعب الدكتاتور سعيدًا!
إذا كان هناك درس يمكن استشفافه من مكتبة المستبدين، فهو أن "التعبير البارع عن الحقائق العظيمة" ليس الطريق الوحيد للوصول إلى الكتابة الخالدة، وإنما أيضًا هناك كلمات الدكتاتور الكبير، التي تكتسب الحياة وقوة النفاذ وسط عقول الناس، مهما كانت وحشيتها وسخافتها، طالما هناك قبضة حديدية تمكن لها المحافظة والانتشار.
اقرأ/ي أيضًا: