العودة إلى كتب الجغرافيين العرب وقراءتها أشبه بالتجول في أمكنة وأزمنة مختلفة لا نعرفها إلا عبر ما نقرأ في هذه الكتب نفسها. فما سيُصادفه القارئ أثناء قراءتها أمكنة مُنِحت بما أطلق عليها من أسماء غريبة معانٍ وصور مغايرة، وكأن بحر الروم الاسم القديم للمتوسط، غير البحر المتوسط.
وبقراءتها، يكتشف القارئ نشأة ومسار تطوّر أدب وعلم الجغرافيا العربي الذي ازدهر في القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، الذي يُوصف بأنه قرن ازدهار الحضارة الإسلامية.
برزت في هذا العلم أسماءٌ عدة ساهمت في تأسيسه وتطويره، أبرزها وأشدها أهمية على الإطلاق الشريف أبو عبد الله محمد بن محمد ابن عبد الله بن إدريس الصقلي المعروف بـ"الإدريسي"، صاحب أول خريطة دقيقة للعالم حدَّد فيها مواقع المدن والأنهار والجبال، والجغرافي الذي اعتمد الأوروبيون على خرائطه في رحلاتهم الاستكشافية لحوالي ثلاثة قرون.
قدّم الكتاب من المعلومات ما جعله مرجعًا شديد الأهمية في عصره، وأحد أهم الكتب الجغرافية في تاريخ البشرية
ألَّف الإدريسي عدة مؤلّفات جغرافية تُعتبر اليوم مرجعًا وأساسًا لعلم الجغرافيا العربي، بينها "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" الذي وضعه بعد جمعه عددًا هائلًا من المعلومات عن الأرض وأقاليمها السبعة على مدار نحو 15 عامًا.
يُعرف الكتاب أيضًا باسم "كتاب رجار" لأن الإدريسي كتبه لملك صقلية روجر الثاني وبتكليف منه. ولم يكن الرجلان يعرفان في حينها أن هذا الكتاب سيكون أحد أهم الكتب الجغرافية في تاريخ البشرية في العصور الوسطى.
انكبّ الإدريسي على تأليف كتابه عام 1138، وفرغ منه عام 1154. وبين هذين التاريخين، سعى الجغرافي الأندلسيالذي أقام في بلاط الملك الصقلي خلف كل المعلومات المتوفرة التي وضعها رحّالة وجغرافيون سابقون حول الأرض، وأضاف لها معلوماته وما تحصّل عليه وخلص إليه في رحلاته وأسفاره.
اعتمد الإدريسي أيضًا على معلومات الباحثين الذين أوفدهم الملك إلى مناطق مختلفة محيطة بمملكته لجمع المعلومات سواء الجغرافية أو المناخية والسكانية. واستغرق جمع وترتيب هذه المعلومات عقد ونصف. وبناءً عليها، رسم الإدريسي خريطته الفريدة التي تعتبر أول خريطة في العالم.
قدّم الكتاب من المعلومات ما جعله مرجعًا شديد الأهمية في عصره، وتميّز من بين ما تميّز به بالمعلومات المتعلقة بالبحر المتوسط، وأرفقه الإدريسي بكرة أرضية من الفضة ضمّنها تضاريس العالم ومعالمه، وخريطة شاملة للكرة الأرضية.
وضع الإدريسي في "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" ما لم يستطع وضعه في الكرة والخريطة، حيث قدّم فيه وصفًا دقيقًا ووافيًا للطبيعة، والمحاصيل الزراعية، والصناعات، إضافةً إلى العمران والعلاقات المحلية، وعلاقات الدول ببعضها البعض، وما هو شائع بين الناس عن عجائب العالم، وكذلك تحديد المسافات.
ورغم أهمية الكتب والجهد الذي بذله الإدريسي لتأليفه، على مدار 15 عامًا، تقول بعض الروايات التاريخية إن هدف الملك الصقلي منه كان سياسيًا توسعيًا بحتًا. لكن هدفه لم يتحقق، إذ فرغ الإدريسي من تأليف الكتاب قبل وفاة الملك بفترة قصيرة.
يقول الباحث حسين مؤنس: "يمثل الإدريسي القمة التي وصل إليها العلم الجغرافي في الشرق والغرب على السواء، فهو أول جغرافي في التاريخ نظر هذه النظرة العامة، وسما إلى مفهوم عالمي للجغرافي، وحق بذلك أن يوصف بأنه أعظم جغرافي ظهر في الدنيا إلى مطالع العصر الحديث".