ألترا صوت – فريق التحرير
يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.
جمال الجلاصي شاعر وروائي ومترجم من تونس. من أعماله الشعرية: "الإقامات" و"أعشاب اللغة". ومن أعماله الروائية: "الأوراق المالحة" و"باي العربان"، إضافة إلى العديد من الترجمات، من أبرزها ديوان "كرّاس العودة الى أرض الوطن" لإيمي سيزير.
- ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟
في طفولتي كنت في تماس شبه دائم مع الكتاب، دون أن تكون لي به علاقة مباشرة. كانت أختي جميلة قارئة لإحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ. كانت مشتركة في المكتبة العمومية وأذكر أنّي صحبتها مرّات لتغيير الكتب. وكان أبي رحمه الله يملك كتابين: تفسير ابن كثير للقرآن الكريم، وسيرة عنترة بن شدّاد. لكنّي لا أذكر أنّي كنت مغرمًا بالكتب. كنت طفلًا "ولد حومة" أنغمس في ما ينغمس فيه بقية الأولاد من لعب كرة وملاحقة العصافير ولعب الكجة والخذروف والغميضة، وكل تلك الألعاب الجميلة التي لم نعد نراها في أحيائنا.
ثم أصبحت حارس كرة قدم في فريق النادي الأولمبي القليبي، وكوّنت مع مجموعة من الأصدقاء فرقة للقص العصري في دار الشباب.
أذكر أنّي لمّا كنت في السنة الثانية ثانوي (8 أساسي بنظامنا التعليمي الحالي) كنّا ندرس نصّ "ما هكذا تؤخذ اللقمة يا بنيّ" لطه حسين من كتاب "الأيام". وعند عودتي في المساء إلى البيت حكيت لأفراد العائلة عن النص الذي أثّر فيّ كثيرًا وشرح الأستاذ الفاضل جمال بن الشيخ له وحديثه عن عبقرية طه حسين. وكان خالي رضا في منزلنا. ومن الغد فاجأني بإهدائي كتاب "الأيام" في طبعة فاخرة ومجلّدة.
كان هذا الكتاب هو "من" أدخلني إلى عالم الكتب. تحدّثت عن ذلك في روايتي الأولى "الأوراق المالحة": تحدّثت عن ذلك الطفل الذي كان يحلم بأن يجد خاتم سليمان على حافة الترعة وأن يحقق له جنّي الخاتم كل أمانيه. وكان أن وجد الخاتم في الكتب وحقق بنفسه ما يعجز عن تحقيقه عتاة الجنّ والإنس.
- ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟
لم أستطع نسيان "الأيام" ذلك الكتاب الذي فتح أمامي آفاقًا واسعة وآمالًا رهيبة.. إن هذا الصبي الأعمى القاطن في إحدى قرى الريف المصري لم يخرجه من الهامشية والالتحاق بملايين الأطفال الذين يقضي عليهم الفقر والعاهة سوى القراءة. إن ما ميز هذا الصبي عن إخوته هو ولوعه بالقراءة وتفتح خياله ورغبته في تغيير واقعه ونمط عيشه... أذكر جيدًا تحليقه بعيدًا عن الجميع بواسطة "خاتم سليمان" الذي سيجده في "الترعة"... وكان أن وجد خاتم سليمان فعلًا وخرج له الجني فعلًا.
هل وعيت عندها وأنا في الرابعة عشرة أن الجن كامن في القراءة. في تلك الكتب التي كنت أنفر منها إلى ذلك الحين! أو لم تكن تعني لي أكثر من أداء واجب للنجاح في الدراسة. هل وعيت عندها أن القراءة المكثفة هي التي ستجعلني قمقما أخرج المارد من داخلي وآمره أن يغير وضعي فيفعل صاغرًا؟ هل وعيت بعدها أن المارد الذي سأعتصره من داخلي قادر غلى تغيير ليس واقعي البسيط الساذج فحسب، بل تغيير كل الأوضاع البسيطة والساذجة في هذا الكون؟ عرفت هذا الأمر حين قرأت كتبًا تصف الواقع الرديء الذي يعيشه ملايين البشر وتدعو جهارًا لتغييره، ولم أتساءل من أين جاءهم هذا الحق في الدعوة إلى التغيير، وما أجبرهم على التعرض للانعزال وتحمل المشاق الذهنية والجسدية لاختراع الحلول لتخليص أناس لا تربطهم بهم أي رابطة من البؤس الذي يعيشونه.
لم أتساءل أبدًا عن ذلك! أحدس فقط أنه أمر ضروري، وأنه علي أن أفـعـل مثلهم وبدأت فعلًا أقلد قصائدهم وقصصهم.
- من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟
بالنسبة إليّ لديّ كاتبان مفضلان: كاتبي المفضّل الأوّل هو الروائي العربي حنّا مينه، كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين. أعتبر مسيرته الروائية درسًا في تطوّر المشروع الروائي لكلّ كاتب صاحب رؤية. هذا الكاتب العصاميّ الذي آمن بموهبته في الكتابة وعمل على تطويرها شكلًا ومضمونًا طيلة حياته على مدار 40 عملًا روائيًّا، منذ "المصابيح الزرق" حتى "شرف قاطع الطريق". الالتزام الإنساني والاجتماعي في كتاباته، دون أن تتحوّل إلى مناشير بلاغية أو شعارات فضفاضة جعله كاتبي المفضل. حنّا مينه وفيّ إلى الأدب بقدر وفائه إلى الإنسان.
هناك كاتب آخر أعتبره كاتبي المفضل هو الروائي الأمريكي هنري ميللر الذي أعتبر أن ثلاثيته "الصلب الوردي" أعظم ما كتب عن عشق الكتابة، وأجمل الكتب التي ساهمت في تطوير فن الرواية في العالم. هذا الكاتب الذي عرف الفشل والرفض في محاولاته القصصية الأولى، والذي رفضت دور النشر الأمريكية رواياته بسبب شحنة الجرأة التي تحتوي عليها، وكذلك بسبب أسلوب الجديد في الكتابة نجح في تحقيق شهرة لا يحلم بها أكبر الكتّاب الذين تحصلوا على جائزة نوبل.
تعلّمت من حنّا مينه ومن هنري ميللر أنّ الوصفة السرية للنّجاح في المشروع الأدبي هي الإخلاص للكتابة وعشقها وجعلها مدار الاهتمام. جعل الكتابة مشروع الحياة الأول، والابتعاد عن كل تقليد وتملّك بصمة متفرّدة هي الشروط الضرورية للكتابة الحقيقية.
- هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟
أنا لا أكتب أيّ حرف على صفحات الكتاب. أعتبر ذلك تعديًّا على حرمته ولا أطوي حتى صفحاته. عادة لا أكتب ملخصات أو ملاحظات إلا في حالات نادرة من خلال ما يسمّى بالكتابة العاشقة. أستعيض عن ذلك بالحديث. أحب كثيرًا أن أتحاور مع الأصدقاء عن الكتب التي قرأتها وأشعر بمتعة لا تضاهى حين أحكي لصديق يشاطرني محبة القراءة. ومحاولة إعادة بناء الحكاية والأسلوب والطرافة في رواية ما.
- هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟
لا ألتجئ إلى الكتاب الإلكتروني إلا استثنائيًّا واضطرارًا. أحبّ ملامسة الكتاب وشمّ رائحته. قد يعتبر البعض ذلك رومانسية زائدة لكنّ حتى خشخشة الورقة لها نغمة مميّزة في أذني ووجداني. كما أنّ الكتاب الإلكتروني يشغل وقتي المخصص للكتابة فما دمت أعمل على الحاسوب فهذا يعني أنّي أكتب. أقرأ فقط في الوقت الذي لا يمكنني فيه الكتابة. هذا نسق حياتي العادي.
- حدّثنا عن مكتبتك؟
كما قلت سابقًا ورثت عن والدي رحمه الله كتاب سيرة عنترة وتفسير ابن كثير. وبدأت بتكوين مكتبتي منذ المرحلة الثانوية. مكتبتي متنوّعة رغم أنّ عمودها الفقري هو الروايات العربية. أمتلك كتبًا بلغات لا أعرفها، أحلمها بقراءتها، وكتبًا في اختصاصات بعيدة كل البعد عن اهتمامي كالطب والهندسة والفيزياء، أفتحها أحيانًا لأحسّ بأنّ العالم أرحب بكثير، وأنّنا لا نعلم غير قدر يسير. أحب قراءة السير. سير الكتاب والمناضلين والأبطال الأسطوريين. أحب قراءة التاريخ، أعشق سيرة بناء الأمم وصعودها المدوي ثم ذلك السقوط الصاعق.
تحوي مكتبتي على أكثر من 3 آلاف كتاب مقسّمة على ثلاث غرف. وهي في حالات فوضى دائمة تقريبًا. لم أنجح في ترتيبها إلا في مرات قليلة، ولم أتمكّن حتى الآن من بناء مكتبة في غرفة مستقلة، وهذا من بين أحلامي. أحتفظ بأرشيف شبه كامل لصحيفة أخبار الأدب منذ بداية التسعينات ومجلة الحياة الثقافية.
- ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟
أقرأ حاليا رواية "امرأة وخمس نساء" للروائي العراقي سلام عبود: العنوان ولا شك لحاله أحجية. تنطلق الرواية من لحظة تاريخية في عدن لأخطر تجربة سياسية عربية في تاريخنا المعاصر، نتتبّع تفاصيلها من خلال أربع عوائل يمنية تقيم في حي سكني راقٍ لمسؤولي الدولة والحزب الكبار، بالإضافة إلى الدبلوماسيين من العرب والأجانب. تجتمع تلك العوائل مضطرة تحت سقف واحد لبيتٍ دارتْ من حوله المعركة بين الأطراف المتنازعة على السلطة سنة 1986. مرّت بعض شعوب المنطقة العربية بتجربة تكاد تكون مشابهة في جانب آخر منها، من ناحية الحديث عن حزب شمولي تعلوه أجواء الفساد والشللية والتواطؤات والخيانات والقتل، مناصب حكومية وحزبية ومنافع وصفقات، الفارق هنا هو أهداف الحزب الحاكم ذاته وولاءاته؛ اشتراكيًا، شيوعيًا، ماركسيًا، لترتسمَ صورةٌ ما من خلال البعثات الدراسية. سلطة التمثيل الدبلوماسي في الدول الاشتراكية، الكافيار والنبيذ الكوبي، وأيضا العراقيون الفارون من حملة مطاردة البعثيين لهم وزجّهم للبعض في الاشتباكات التي حصلتْ (وللمفارقة اقترنوا في ذاكرة بعض النسوة اليمنيات بخمّاراتهم). وقد لا يكون، حين نحصي الخسائر، للاختلاف بين نظام قومي عربي واشتراكي علمي سببًا يُذكر، فطبيعة المجتمعات هذه لم تستوعب تلك التجارب (تجربة بناء مجتمع اشتراكي) وتعيش تناقضًا مفضوحًا، وإن بدتْ ملامحُ التغيير في جزء منها ظاهريًا في التوجه السياسي، وبعض القوانين للدولة. وقد تعود المعركة الراهنة برمتها إلى "ختان وقات"، كما عقّبت بعفوية وفطرة إحدى البطلات. بين أحداث خارجية تصف الحرب الأهلية وتطوراتها ودور الرجل فيها، وبين تفاصيل يومية من داخل البيت وعلى لسان حارساته، نتلمس المجتمع العربي بكل أشجانه. المرأة المثقفة هنا تتبوأ منصبًا وظيفيًا متقدمًا، ومنصبًا سياسيًا في الدولة والحزب، تؤمن بالمساواة وتدعو إلى حرق "الشيذر" في ظل قانون أحوال شخصية يحرّم الزواج من اثنين. إلى جانب سلسلة من الأعراف العشائرية والقبلية التي فُطرَت عليها.
تبرز الرواية قدرة كبيرة للروائي في الدخول في النفسية اليمنية، إلى جانب إلمامه الفكري بطبقاته وموروثه الشعبي. بناء فني فريد يحاصر فيه سلام عبود أبطاله في مساحة تضيق وتضيق ولا يكلّ حتى النهاية من استنطاقهم من أجل الوقوف على حقيقة فشل التجربة، ولتتكشف لنا شيئًا فشيئًا الأوجه الأخرى للإنسان في هذا المجتمع بغرائزه وغاياته وطبائعه. من خلال سيرة عبود الأدبية نجد سلسلة من الكتب التي تضمنت بحوثًا ودراسات في التاريخ اليمني وتاريخ الأدب اليمني بحكم إقامته على مدى سنوات هناك، وقد توجتها هذه الرحلة الشاقة، وربما الأهم بما يخص هذا الحدث الذي حاول أن يتوخى الأمانة في سرد تفاصيلها، عبر فترة زمنية تجاوزت في كتابتها العشرين عامًا.
اقرأ/ي أيضًا: