ألترا صوت – فريق التحرير
يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.
حنان قصاب حسن أكاديمية وكاتبة ومترجمة ومخرجة مسرحية من سوريا. درّست في كلية الآداب وكلية الفنون الجميلة والمعهد العالي للترجمة في جامعة دمشق، والمعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، ثم في الجامعة اليسوعية وجامعة الكسليك في لبنان.
شغلت مناصب إدارية عليا على رأس مؤسسات ثقافية في سوريا كالمعهد العالي للفنون المسرحية الذي أدارته كعميدة (2006 - 2010)، ودار أوبرا دمشق التي كانت مديرها العام (2009 - 2011). عملت أيضًا كأمين عام لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية لعام 2008 وتم اختيارها عضوًا في المجلس الثقافي للاتحاد من أجل المتوسط في فرنسا (2009 - 2011) وقد نالت ثلاثة أوسمة ثقافية وأدبية من فرنسا وخُصّص لها مدخل كامل في موسوعة النساء المبدعات في فرنسا. عملت كمستشارة خارجية مع اليونسكو لعدة سنوات، وشاركت في مجال إدارة عدد من الجمعيات الثقافية العربية والأوروبية.
لها عدد كبير من الأبحاث في مجال المسرح والفنون، كما ترجمت من وإلى الفرنسية عددًا من الأعمال المسرحية لجينيه وكولتيس وبيكيت وونوس، ودراسات لعبد السلام شدادي وجان بيير فرنان. وقد قامت مع زميلة لها في عام 1997 بتأليف معجم لمفاهيم المسرح وفنون العرض يعتبر من المراجع الهامة في هذا المجال.
- ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟
ما كان يمكن إلا أن أجيء إلى عالم الكتب لأني ولدت محاطة في جميع غرف البيت برفوف مليئة بالمؤلفات من الأنواع والأجناس كافة. كانت مكتبة بيت أهلي بمثابة مغارة علي بابا استكشفت فيها عوالم متنوعة ومدهشة ومذهلة. لولا تلك الكتب لكنت شيئًا آخر. لقد استطاعت هذه المكتبة الضخمة المتنوعة أن تبني لي شخصيتي وتغني مخيّلتي وتنحت ذائقتي وتصقل أسلوبي وأنا أتدرج من الطفولة الأولى إلى بداية الوعي.
لا شك في أن الفضل الأكبر في ولعي بالكتب يعود إلى والديّ اللذين أقنعاني أنا وأختيّ منذ طفولتنا الأولى بأن الكتاب هو أفضل شيء في الدنيا وهو أهم من اللعبة. كما أنهما استطاعا أن يدرجا المطالعة في الحياة اليومية كنشاط ممتع ولا بد منه ويرتبط بكثير من الحب، وهذا أهم جانب في الموضوع. كانا يقرآن لنا بكثير من الشغف، ويشرحان ويتوقفان عند التفاصيل الأدبية. وكانا يجهدان لاختيار الكتب التي تجذب وتثير الفضول وتحرّض المخيلة، ويحرصان على أن تكون المقتطفات التي يختارانها متينة متميّزة. من خلالهما ومعهما انتبهت إلى جمال الصور وإيقاع النص والجرس الموسيقي في الآيات القرآنية وفي شعر امرؤ القيس ومالك بن الريب وطرفة بن العبد وفي كتابات طه حسين والرافعي. لكنني اكتشفت معهما أيضًا عالم الخيال والأساطير عبر طريقة دريني خشبة في رواية الإلياذة والأوديسة بأسلوبه الخاص؛ وعالم التشويق والمغامرات في الروايات التاريخية لجرجي زيدان، كما تعلمت التفاعل مع آلام المسحوقين والمعذبين في كتابات يوسف ادريس وشعر ناظم حكمت وروايات غوركي ودستويفسكي وتولستوي.
باختصار. كانت تلك القراءات الأولى المتنوعة والغنية بمثابة مصيدة وقعت فيها حتى صرت فأرة كتب كما يقولون، ولم أخرج منها أبدًا بعد ذلك.
- ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتكِ؟
هناك كتب شكلت محطات أساسية في قراءاتي المتنوعة. فبعد التنوع الهائل في القراءات التي وسمت طفولتي، بدأت أصبح في سن الوعي أكثر انتقائية. من الكتب التي قرأتها مرارًا تكرارًا في تلك الفترة ولعبت دورًا في فتح عيني على مفهوم العالم الثالث وعلى نضال الشعوب ضد الاستعمار وضد التمييز العنصري كتاب "معذبو الأرض" لفرانتز فانون. هذا الكتاب ساهم في بلورة وعيي السياسي وفتح عيني على مسائل إنسانية غاية في الأهمية. تلك كانت فترة الستينيات والعالم يغلي والبلاد المُستعمَرة تطالب بتحررها والحركات الطلابية في أوجها، ولذلك كان من الطبيعي أن أجد في هذا الكتاب ما يجيب على كثير من التساؤلات المطروحة في العالم. لقد رسم لي توجهي الفكري. بفضل كتاب فانون استطعت أن أتجه نحو الالتزام بالقضايا الكبيرة وأن أفلت من الوقوع في التوجه الآخر الذي كان يهيمن على جزء من الشباب المثقف من جيلي، وهو تيار اللاانتماء والضياع الذي تمثله كتابات كولن ويلسون. صحيح أني ابتعدت عن السياسة ورفضت الانتماء إلى أي حزب طيلة حياتي، لكن كانت لي مواقف واضحة إلى جانب قضايا التحرر بفضل هذا الكتاب.
المحطة الثانية كانت اكتشاف جان جينيه. يعود الفضل في ذلك إلى السيدة إيفيت والدة صديقتي سراب أتاسي. كانت فرنسية مثقفة، وقد قرأت لنا مرة شعرًا يصف جمالية ثياب المساجين المخططة!! أية روعة! كان جان جينيه قد خرج لتوه من السجن لأنه سرق رغيف خبز، وكتاباته عن الواقع الفج للعالم تفيض شعرًا. هذه الخصوصية الغريبة في كتابات جينيه جعلتني أفلت من التقييمات الطهرانية التي تقسم العالم إلى خير وشر، وتطلق على السجناء واللصوص أحكامًا أخلاقية قاسية. وفي الوقت نفسه كانت استكمالًا لفكرة الأدب في خدمة القضايا العامة لأن جينيه كتب عن الخدم في كراهيتهم الملتبسة لعالم الأسياد، وعن الزنوج في نضالهم ضد العنصرية، وعن الجزائر وهي لم تتحرر بعد، وعن الفلسطينيين في عجلون، وفي مخيمات صبرا وشاتيلا..
من الكتب التي كانت دائما في متناول يدي كتاب فقه اللغة للثعالبي. ففيه اكتشفت جمال وغنى اللغة العربية وتنوع مفرداتها في مجالات لا تخطر على بال. هو نوع من المعجم اللغوي مبوّب حسب المادة، ويحتوي على جميع المفردات التي تصف على سبيل المثال الرمل، لونه وحجم حباته ونعومته وخشونته، واسمه حين يثور في زوبعة، واسمه حين يلتصق ببعضه كثبانًا؛ أو تصف الريح بأنواعها وشدتها واتجاهاتها، والحب ودرجاته والجمال وأنواعه... إلخ. كنت لا أمل من قراءة أبوابه بفضول المكتشف، وأعود إليه بشكل دائم حين أترجم. وقد اكتشفت من خلاله كمية المفردات التي فقدناها في اللغة العربية مع الأسف بسبب قلة الاستعمال.
أخيرًا من الكتب التي أثرت في بشكل كبير كتاب كنت أقلب صوره وأنا صغيرة لا أتقن الفرنسية، ثم قرأته وأنا طالبة في الجامعة. هو كتاب لأندريه مالرو عن تاريخ الفن في العالم اسمه المتحف المتخيّل يُجري فيه مقارنة بين أعمال فنية متباعدة مكانيًا وزمانيًا، لكنها متقاربة في التكوين وفي الرؤية. هذا الكتاب فتح عيني على تحليل الأعمال الفنية وكيفية التعامل مع تقنياتها ورؤيتها، ومن خلاله بدأت أهتم بتحليل اللوحة والمنحوتة وأتابع التاريخ المقارن للفنون، واستكملت هذا الشغف بكتاب آخر هو الفن والمجتمع عبر التاريخ لأرنولد هاوزر، وأعتبره من الكتب الأساسية التي أثرت عليّ معرفيًا ومنها استقيت معظم معلوماتي عن تاريخ الفن في العالم.
- من هو كاتبكِ المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟
ليس هناك كاتب واحد مفضل عندي بل عشرات إن لم أقل مئات الكتّاب.. غابرييل غارسيا ماركيز سحرني بقدرته الهائلة على الابتكار وعلى رسم عوالم غريبة وطريفة وأعدت قراءة رواياته مرارًا؛ وكذلك بول أوستر والياس خوري وجبرا ابراهيم جبرا وجون إيرفينغ. تشدني أعمال حسن داوود لهدوئها وبطئها المريح، وكتابة رشيد الضعيف لطرافتها، وكتب إبراهيم الكوني ورؤوف مسعد بسبب وصفهما الساحر لعوالم غريبة ومحببة، وروايات فواز حداد لدقة التوثيق فيها وجمال السرد. ولا أنسى صنع الله إبراهيم وعبد الرحمن منيف وخالد خليفة ونجوى بركات وهدى بركات. ذلك أني بشكل عام شغوفة بالرواية أكثر من غيرها من الأنواع. أحب أن أدخل في عوالمها المتخيلة التي تأخذني بعيدًا عن الواقع، وأتمنى دائمًا ألا تنتهي صفحات الكتاب حتى لا أخرج من تلك المتعة. وأفضل دائمًا الرواية ذات البنية المعقدة، وتلك التي تعتمد تقنيات جديدة في السرد.
بالمقابل، لا أحب كتابة جبران خليل جبران، ولم يسحرني كتاب الأمير الصغير لسانت اكزوبيري كما فعل مع نصف سكان الكرة الأرضية. لا أحب على الإطلاق الأدب الوجداني والخواطر والشعر الرومنسي والرمزي والصوفي.
- هل تكتبين ملاحظات أو ملخصات لما تقرئينه عادة؟
كان عندنا أستاذ فرنسي في كلية الآداب علمنا كيف نتعامل مع الكتاب، كيف نبدأ بقراءة المكتوب على الغلاف الأخير لنأخذ فكرة عن المحتوى، ثم نطالع فهرس المواد في الداخل لنرى إن كان فيه ما يهمنا. بعد ذلك يمكن أن نقرأ المقدمة وفي كثير من الأحيان نختار من الكتاب ما يهمنا نظريًا. وبالفعل هذا ما تعلمت أن أفعله في القراءات النظرية التي تتعلق بتقنيات التحليل المسرحي والفني والروائي، وفي بعض الأحيان أضطر لتسجيل بعض الملاحظات التي أحفظها على الكومبيوتر لأستخدمها في التدريس لاحقًا، لكني قليلًا ما أفعل لأنني بشكل عام أثق بذاكرتي وباهتمامي بالمادة، خاصة وأنني أثناء التدريس لا أقرأ من دفتر أو كتاب بل أتكلم وأحلل دون أن أعود إلى ملخص أمامي. أما خارج نطاق الدروس فلا أسجل أي شيء ولا أكتب ملخصات، وعلى الأخص عندما أقرأ رواية لأنني أشعر أن ذلك يمكن أن يخدش المتعة التي اشعر بها أثناء القراءة.
- هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟
طبعًا تغيرت وبشكل كبير. فأنا أمضي أكثر من نصف حياتي أمام الشاشة وأستمتع كثيرًا بقراءة الكتب على الكومبيوتر أو الأيباد. أجد أن الكتاب الالكتروني اختراع عظيم جدًا لأنه رخيص ومتاح بسهولة ويمكن تكبير حروفه حسب الحاجة، ووزنه خفيف ويمكن تخزينه في ذاكرة الكومبيوتر أو قراءته على اللوح الإلكتروني، وهذا ما يناسب جدًا حياة التنقل والترحال التي أعيشها من حوالي عشر سنوات. وما يقوله الناس عن الشعور الرومنسي بمتعة ملمس الورق ورائحة الحبر هو كلام جميل لكنه لا يعنيني كثيرًا. التطور الإلكتروني طوّر جزءًا جديدًا من دماغنا وأقلم جسدنا وحرّض تفكيرنا بالربط مع شرط الجلوس أمام الشاشة. على الأقل هذه حالتي أنا. أنا لم أعد أقرأ وأنا مستلقية كما كنت أفعل من قبل، بل جلوسًا على الطاولة، وقد خلق ذلك جاهزية جسدية وفكرية مختلفة عن السابق.
- حدّثينا عن مكتبتك.
مكتبتي مليئة بالدراسات النظرية عن تحليل الأعمال الفنية والمسرحية والأدبية. وقد غذيتها خلال سنوات طويلة بأهم ما صدر في العلوم الإنسانية باللغة الفرنسية، ثم أضفت عليها من مكتبة أهلي أشياء كثيرة فصار عندي باللغة العربية أهم كتب التراث والتاريخ وتاريخ دمشق بشكل خاص. كذلك فإن عدد الروايات والمسرحيات العربية والأجنبية في مكتبتي لا يٌحصى، وكذلك ومجلات المسرح التي صدرت في مصر وسوريا. ضمن هذا الكم الهائل من الكتب كنت أعرف تمامًا أين أجد كل مرجع أحتاجه، في أي رف وبجانب أي كتاب.. للأسف اليوم صارت مكتبتي بعيدة عني، وجميع كتبي في علب كرتونية موزعة عند الأهل والأصدقاء في دمشق. أفتقد إليها كثيرًا لأنها مليئة بالمراجع الهامة التي أحتاجها كل يوم، وأفتقدها ولا أستطيع الوصول إليها، وأغلبها لا توجد منه نسخًا إلكترونية. بالإضافة إلى أن لدي نسخًا نادرة من الكتب أحب أن تبقي لي، لكني بدأت أتأقلم تدريجيًا مع فكرة أن أفقدها. لم أعد أشتري كتبًا ولا أريد تأسيس مكتبة من جديد، أكتفي حاليًا بزيارة المكتبات العامة لقراءة الكتب فيها، وصار ذلك بالنسبة لي ضرورة حياتية توازي امتلاك الكتب. ولحسن الحظ أني أعيش حاليًا في الدوحة حيث توجد مكتبة وطنية رائعة ومليئة بالمؤلفات الهامة وشروط القراءة فيها غاية في الراحة.
- ما الكتاب الذي تقرئينه في الوقت الحالي؟
أما عن قراءاتي الحالية فأقرأ بالتوازي "تاريخ الجولان المفصّل" لتيسير خلف، ورواية "المولودة" لنادية كامل، وكلاهما مؤلفان ضخمان يحتاجان لمائة عام من القراءة، أي مائة عام من المتعة.
اقرأ/ي أيضًا: