يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.
سناء عون قاصة وكاتبة من سوريا، عملت في مجال التربية والتعليم. لديها مجموعتان قصصيتان، الأولى "خطوط العمر الحمراء"، التي صدرت في 2007، والثانية "حيث تشير البوصلة" التي صدرت مؤخرًا عن "منشورات المتوسط". تقيم في النرويج منذ 2016.
- ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟
ربما هو جدّي! أقول ربما، لأني اليوم وبحكم تلك المسافة عن الطفولة والصبا، أستطيع نوعًا ما أن أدرك كيف تشكلت لغتي الأم، فعلى العكس من أن الجدّات هنّ شهرزادات الحكايا، كان جدّي تلك الشهرزاد.
جدّي هو ملقني الأول، لحكايات الفروسية والبطولة والخيانات والحب والألم. كان يحفظ السير الشعبية كاملة عن ظهر قلب، ويقصصها علينا بطريقة ساحرة، فيسرد القصص شعرًا مغنى. ذلك الصوت الشجي شكّل لغتي الأولى. وأعتقد أن ذلك السحر سيبقى يلاحقني مدى الحياة. أدرك الأن بعد تلك السنوات الطويلة، والمخزون من القراءات لعدد لا بأس به من كتب الشعر والأدب، أن جدّي كان ديوان شعر عربي كامل، جاءني في وقت مبكر كهدية من السماء.
كنت أعتقد أن جدي هو مؤلف ذلك الشعر، لكن المفاجآت التي انهالت عليّ تباعًا، بدءًا من مرحلة الدراسة الإعدادية والثانوية، بأن تلك القصائد لم تكن لجدّي. كدتُ أصرخ معترضة (لولا الحياء) على المعلمة وهي تنسب شعر جدّي لشاعر مغمور يدعى امرأ القيس. في الحصة التالية نسبتْ بيتًا آخر لشاعر يدعى عنترة، ثم نسبت الأشعار كلها إلى شعراء آخرين كنت أعرف شعرهم من جدّي، والآن يتواطؤون على سرقة ديوانه.
احتجت وقتًا ليس بالقليل لأسيطر على المفاجأة، وأنا أقرأ شعرًا للمرة الأولى، بأني أعرف ذلك الشعر، فعمر الخيام أعادني إلى صوت الجدّ على سريره وهو يغني تلك الرباعيات بذلك الشجن. لكن قراءتي لمحمد الماغوط ونزار قباني احتاجت وقتًا أطول بكثير وأنا أتساءل عن مصادر جدّي الحقيقية.
الغريب الذي اكتشفته مؤخرًا أن جدّي كان يُضمّن تلك الأشعار في سيره الشعبية، ويُشكّل نصه الخاص.
أتساؤل الآن: كيف خطر لجدي أن يدمج أشعارًا للمعري وأبي فراس الحمداني ونزار قباني ومظفر النواب في سيرتي الزير سالم وعنترة؟
هل تهدي السماء أحدًا هكذا مكتبة!؟ جدّي مكتبتي الأولى.
- ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟
هناك الكثير من الكتب التي كانت مفصلية في حياتي، ولم أعد بعدها كما كنت قبلها. لنقلْ المؤلفات الكاملة لجبران خليل جبران، فهذا المجلد الضخم الذي قرأته في عمر مبكر نسبيًا علمني حب القراءة وكان بوابتي إلى عالم الكتب والقراءة. ومعه انتقلت من حيز الشفاهي عند جدّي إلى المكتوب.
بعده جاء شكسبير عبر كتاب مدرسي، ولا أزال إلى غاية اللحظة أتذكر ما فعلته بي مسرحية "تاجر البندقية".
تلك هي كتبي الأولى التي جعلتني أتعلّق بالكتب والورق، وإن كان رأيي فيها قد تغيّر نقديًا إلا أن مكانتها لا تزال ثابتة في الذاكرة، وفضلها لا يمكن إنكاره.
من أهم كتب الحياة "ألف ليلة وليلة"، ذلك الكتاب الساحر الذي لم تنته حكاياته حتى اليوم، ففيه كسبت آلاف الأجداد والجدّات. "ألف ليلة وليلة" ليس كتابًا بل عالمًا لا ينتهي.
- من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟
ديستوفسكي الذي علمني معنى الكتابة. كتّاب أمريكا اللاتينية وعلى رأسهم ماركيز الذي ترافقني دروسه التي ضمها كتاب "كيف تحكى الحكاية". وكذلك إدواردو غاليانو وجوزيه ساراماغو اللذان يعلّمان الإنسان الرفض والتمرد.
- هل تكتبين ملاحظات أو ملخصات لما تقرأينه عادة؟
بالنسبة للكتب الفلسفية والفكرية، أضع الكثير من الملاحظات، حتى يبدو الكتاب بعد أن أنتهي من قراءته مثل كتاب سحري مليء بالطلاسم. هناك الكثير من الأسئلة التي تخلقها الكتب فيّ، لكن بالنسبة لكتب الشعر والرواية، والأدب بشكل عام، أترك نفسي مع الكتاب، وأشير أحيانًا إلى المقاطع التي تعجبني، بحيث عندما أعود للكتاب، أعود إليها، وأحيانًا أقرؤها على الأصدقاء.
- هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟
لطالما أحببت رائحة الكلمات على الورق، لا سيما في الكتب ذات الطبعات القديمة مثل كتب الأدب الروسي التي كنت أقتنيها من معرض الكتاب الدائم على الأرصفة في دمشق، إذ كانت تعطيني الإحساس الدائم بأني أشم ما أقرأ. هكذا تتكامل الحواس مع الكتاب الورقي، لمس وتذوق ورؤية وسمع (لأني أقرأ أحيانًا بصوت عال) ورائحة. مع الكتاب الإلكتروني فقدت الرائحة، وبحكم الهجرة والبعد عن الوطن، وفقداني مكتبي، لم تعد أمامي إلا كتب بلا رائحة.
- حدّثينا عن مكتبتك؟
كلما واجهت سؤالًا عن مكتبتي يأتيني شعور بأني بدوية عليها الرحيل في أي لحظة، تاركة خلفها كل شيء، باستثناء خيمتها. خيمة تلك البدوية اليوم، الآيباد. يا للمفارقة الرهيبة! بدوية بخيمة وبدوية بآيباد! بعد أن تركت مكتبتي في دمشق وغادرت لم أعد أثق بشيء. وشعور اللااستقرار هو المسيطر عليّ دائمًا، لهذا خبأت مكتبتي في هذا الآيباد ومستعدة للرحيل. لكن ورغم هذا الشعور وكنوع من المقاومة ربما، أجدني أعيد تشكيل مكتبتي، فخلال فترة قصيرة صارت لدي مكتبة لا بأس بها من حيث العدد.
- ما الكتاب الذي تقرأينه في الوقت الحالي؟
أنهيت مؤخرًا رواية "اعترافات إرهابي" لريتشارد جاكسون. كتاب عميق بشكل رهيب. تأتي أهمية هذا الكتاب برأيي من أنه يفرض علينا نزع حجاب الجهل الذي كنا نتعامل فيه مع أفكارنا المسبقة عن هؤلاء الناس، والوقوف وجهًا لوجه أمام ما نقوله أو ما نقوم به حيال الإرهاب، ومحاولة فهمهم، لا لتبرير أعمالهم وشرعنتها، لكن كما يحلم الكاتب لإعادة النظر في بعض سياسات مكافحة الإرهاب الانهزامية والمدمرة التي يصر السياسيون على انتهاجها.
هذا الكتاب يضعنا وجهًا لوجه أمام جهلنا التام بهؤلاء الأشخاص، ونظرتنا المسبقة عنهم، بتصنيفهم بعد أي عمل إرهابي، بأنهم ليسوا بشرًا ومجرمون ولا إنسانيين، دون أن نبذل أدنى مجهود لمحاولة فهمهم، لأن محاولة فهمهم تعتبر نوعًا من المحرمات الاجتماعية والسياسية، وإدانتهم وتجريمهم والتبرؤ منهم والقضاء عليهم هي المقبولة، والتي يسارع إليها الجميع.
أحببت في هذا الكتاب كسر تلك النظرة المسبقة، والنظر بعين جديدة إلى الإرهابي من حيث كونه إنسانًا أولًا. بدون المعرفة لا يمكن أبدًا أن نحد من ظاهرة الإرهاب ولن نستطيع مكافحته.
أنهيت أيضًا رواية زياد عبد الله "كلاب المناطق المحررة". رواية مدهشة تجعلك تسمع نباح الحرب بداخلك لأيام طويلة قادمة.
اقرأ/ي أيضًا: