الترا صوت- فريق التحرير
يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.
شريفة التوبي كاتبة من عُمان. صدر لها العديد من الكتب، منها: "في قلبي شجرة" و"عين السواد" و"سعاد".
- ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟
لا شيء أحب إلى قلبي من الكتب، ولا منحت شيئًا من وقتي ومن لحظات عمري أكثر من الكتب، في الكتب وجدت نفسي ووجدت الحياة التي أبحث عنها وأريدها، فإذا من شيءٍ أتى بي إليها فهو الحب، والبحث عن الأمان، في الكتب وجدت عالمًا أكثر اتساعًا من العالم الضيق الذي أحياه، عالمًا كنت أبحث عنه منذ سنوات طفولتي الأولى وأنا أعيش في بيت منعزل بمزرعة بعيدة عن الجيران وضجيج الحياة، بعد أن اختار لنا جدي ذلك المكان للعيش فيه، لم يكن من أحد أتحدث إليه بعد عودتي من المدرسة، كان العالم بالنسبة لي صغيرًا رغم اتساع الفضاء أمامي، وكان يسكنني الحنين لأب بعيد، لم أره سوى من خلال صوره في "مندوس" أمي، فكنت أحدّث الأشجار عن شوقي وحنيني، وتحدّثني الكتب عن جمال هذا الحنين حين يتحول إلى كلمات، كنت طفلة صامتة هادئة قليلة الكلام لكن بداخلي ضجيج العالم كله، وكنت أبحث عن عالم يشبهني، فوجدته في الكتب، أخذتني الكتب من كل ما هو حولي، فأدركت لحظتها أن هناك عالمًا جديرًا بالحياة وجديرًا بأن أهبه نفسي ووقتي. أخذتني الكتب إلى الحكاية وإلى المتعة والمعرفة، فكان حصولي على كتاب هو الغاية التي أسعى إليها والهدية التي أتمناها، بدأت بقراءة كل ما يقع تحت يدي من قصاصات جرائد وأوراق مكتوبة، قرأت كل الكتب ذات الأوراق الصفراء في مكتبة جدي، ثم بدأت أعرف طريقي إلى المكتبة، إلى درجة أن بعت أساوري الذهبية ذات يوم لأشتري بها كتب، فغضبت أمي مني، لأنها وجَدت في ذلك جنونًا إذ كيف بي استبدل بالذهب كتبًا، وما كانت تدري أن الكتب بالنسبة لي أغلى من الذهب. أحببت الكتب فلا شيء صادق سواها ولا صديق مخلص كإخلاصها، آمنت أن في الكتب حيوات كثيرة سأعيشها وهذا ما حدث بالفعل. أحببت الكتب حتى أحببت كتابتها، فهي من قادتني نحو الكتابة والكتابة قادتني نحو نفسي، لذلك أدين لكل كتاب قرأته بذلك الشعور العذب ولتلك المتعة التي أعيشها لحظة الكتابة، أدين للكتب بما أنا عليه الآن من عزلة هادئة أعيشها بين كتبي وأوراقي وكلماتي.
- ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟
يقال إن الكتاب الأول لا ينساه قارئه ولكني نسيت بقدر ما قرأت وبقدر ما أقحمت نفسي في عوالم الكتب، وبقدر ما كنت أقرأ أكثر من كتاب في وقت واحد، هكذا بدأت، كنت كمن يكتشف كنزًا، فتناولت كل شيء بفرح ونزق غريب، وما من كتاب قرأته إلا وكان له أثر في حياتي وتأثير على روحي، وكل كتاب قرأته كان يمنحني شيئًا منه، فلا يغادرني إلا بعد أن يكون قد غيّر شيء مني، كنت أكبر مع قراءة كل كتاب، تجاوزت طفولتي وسنوات عمري بمراحل.
عرّفني أبي بعد عودته على مجلة العربي ومجلة ماجد، فتشكلت ذائقتي وخيالي مع تلك القصص التي كنت أقرأها، لكنني كنت اقرأ كل شيء، ثم أدركت أن الكتب كالبشر علينا أن نختارها وننتقيها، لأنها تؤثر علينا بطريقة أو بأخرى، تؤثر فينا فنكون أجمل وأكثر نضجًا بعد قراءتها. كل الكتب التي قرأتها كان لها أثر عليّ، وليس هناك كتاب بعينه أستطيع تمييزه لأقول أنه الأقرب إلى روحي أو أثر بنفسي أكثر من غيره، لكل كتاب ما يجعله مختلف وما يجعل له قيمة حسب ما يحتويه بين سطوره وصفحاته، الآن ما عاد يهمّني عدد الكتب التي اقرأها، بل تهمّني القيمة والمحتوى، وقد أعيد قراءة بعض الكتب أكثر من مرة حينما أجد أنها تستحق ذلك، وقد تخلصت من بعض الكتب التي لم تكن أكثر من وجود جامد في رف مكتبتي ووضعتها في مخبأ سري، فأنا بحاجة إلى مكتبة عامرة بالكتب التي تضيف لي وليس أي كتاب، نعم أصبحت أنتقي كتبي كما أنتقي أصدقائي، خصوصًا بعد تكاثر الكتب المستنسخة والمعاد تدوير الأفكار فيها، وغالبًا ما أبحث عن الكتاب وليس الكاتب.
- من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟
ولأني أبحث عن الكتاب، فليس هناك كاتب واحد بل كُثر، ولكن كي أكون دقيقة ربما يكون هاروكي موراكامي هو الذي أحرص على اقتناء كتبه، دون البحث عن ما كُتب حول الكتاب من تقييم أو رأي، لما يتميز به أسلوبه السردي من ميزة خاصة نادرًا ما أجدها لدى كتّاب آخرين، فموركامي يدخلني عوالم فانتازية وغرائبية في لعبة خيالية أقرب إلى التصديق، ولكني أيضًا أحرص على قراءة كتب إيزابيل الليندي، أعشق روايات ماركيز وأحب كتب كافكا وكذلك جين أوستن، وتشدني القضايا التي تطرحها أنعام كجه جي في رواياتها عن المجتمع العراقي وعن المرأة العراقية خصوصًا، أقرأ للكثيرين الذين لا تتسع المساحة لذكرهم، لإيماني بأن لكل كاتب أسلوبه الخاص الذي أتعلّم منه شيئًا جديدًا، ولكن لست ممن يعنيهم كثيرًا اسم الكاتب على الغلاف قدر ما يعنيني المحتوى وجودة الكتابة، فنحن بكل أسف نقع في فخ الأسماء، ونعتقد أن الأسماء وحدها تصنع الكتب، وهذا ليس صحيحًا، فلا يكفي أن يكون المؤلف اسمًا لامعًا في سماء الأدب، فهناك سقطات لبعض الكتّاب، وقد لا تكون كل الكتب التي كتبها كاتب ما بنفس المستوى، والقارئ الذكي يستطيع إدراك ذلك، الرهان على القارئ الواعي، ولكن بكل أسف بعض دور النشر أصبحت تتعامل مع الكتاب كسلعة، فيتم التسويق للكتاب وفقًا لاسم كاتبه، وفي ذلك تُظلم الكثير من الكتب الجيدة التي لم تجد تسويقًا لها لمجرد أن كاتبها مغمور وغير معروف، كذلك الحركة النقدية لدينا في الوطن العربي هي حركة نقدية غير جادة ولا تخدم الأدب بقدر ما تخدم الأشخاص والأسماء، وذلك ليس في مصلحة الكاتب ولا القارئ ولا الكتاب، القارئ هنا يكون ضحية للتضليل، وكم من الكتب التي اشتريناها لأننا وقعنا في فخ ناقد قام بامتداحها ولم ننج إلا بعد أن وصلنا إلى منتصف الكتاب ونحن نبحث عن المتعة أو الفائدة ولم نجدها، فنكتشف أننا أضعنا الكثير من الوقت مع كتاب لا يوجد فيه غير عنوانه واسم مؤلفه. في النهاية، الكتاب الجيد يعّرف بنفسه ويستمر ويحيا بروح كاتبه المبدعة، بينما تموت الكتب التي لا روح فيها.
- هل تكتبين ملاحظات أو ملخصات لما تقرأينه عادة؟
نعم أفعل ذلك، ولكنها ملخصات ليست للنشر بل لنفسي. فحتى لا تخونني ذاكرتي ذات يوم، أقوم بتسجيل بعض الملاحظات والاقتباسات وأكتب ملخصًا عن الكتاب الذي قرأته، لأنه يرعبني أن تتسرب بعض الحكايات الجميلة التي أهدتني إياها الكتب من ذاكرتي أو تبخل بها علي إذ أحتاجها أو أود استرجاعها، فأصبح مهم لديّ أن أسجل ملاحظاتي وألخص ما قرأت، فلم تعد القراءة بالنسبة لي للمتعة فقط ولكنها للتعلّم أيضًا، فأنا أتعلم من الروايات حين اقرأها كما أتعلّم من كتب الدراسات النقدية والأدبية، فلا اقرأ كتابًا دون أن يكون في يدي قلم رصاص، ولا تكتمل ساعات القراءة إلا بوجود القلم، أجد متعة كبيرة أن أخط بالقلم أثناء القراءة على الأسطر المهمة أو حتى التي تعجبني لغتها السردية، أسجل ملاحظات على الهوامش، لا أستطيع أن أقرأ دون أن أقوم بهذا الفعل، فحينما اقرأ أكتشف أسلوب الكاتب وتقنيات السرد التي اتبّعها في كتابته.
لا يكفي أن تقرأ لمجرد القراءة، خصوصًا إذا كنت كاتبًا وتقوم بهذا الفعل، فأنت بحاجة لأن تتعلم أساليب الكتابة الناجحة من غيرك، بحاجة لأن تطور مهاراتك الكتابية، ولن يكون ذلك إلا بالقراءة الجادة الواعية، وبشكل شخصي أعتقد أن الكتب ساعدتني كثيرًا لاكتشاف أخطائي الكتابية وتطوير أسلوبي السردي، فكل كتاب اقرأه أتعلّم منه شيئًا.
- هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟
لم تتغير علاقتي بالكتب ولكنها أصبحت أكثر تنوعًا واتساعًا، أصبحتُ أقرأ أكثر من قبل، لقد أصبح بإمكاني حمل عشرات الكتب في جهاز صغير دون أن أشعر بثقل الوزن كما كان في السابق، ما عدت أشعر بالملل أثناء ساعات الانتظار في المطارات ومحطات السفر والرحلات الطويلة، لأن كل الكتب التي أود قراءتها معي في جهاز صغير قريب مني وفي يدي. أقرأ الكتب الالكترونية كما أقرأ الكتب الورقية، وأقوم بتحميل الكتاب أو حتى شراءه إلكترونيًا حينما لا أعثر عليه في نسخته الورقية، لكني ما زلت أجد متعة أكبر في قراءة الكتاب الورقي، لأني أحتاج إلى تسجيل بعض الملاحظات أثناء القراءة، والتخطيط بالقلم على السطور المهمة، ولأن ملمس الورق ورائحة الحبر والأوراق تشعرني بأني بكل حواسي مع تلك الروح الماثلة أمامي في الكتاب، لكن ولأني أحب القراءة ولأن العالم أصبح إلكترونيًا في كل حياته ومعاملاته، لا سيما الآن مع أزمة كورونا، كثير من الكتب قرأتها إلكترونيًا مع شعوري بأن القراءة الإلكترونية رغم سهولتها هي أشبه بمحادثة صديق بعيد عبر شاشة؛ فلا تستطيع لمسه أو الاقتراب منه، لكني أكون سعيدة جدًا إذ أحصل على الكتاب الذي أحب كنسخة ورقية وأضمّه بين مجموعتي المفضلة في رف المكتبة، وأحيانًا اقرأ الكتاب إلكترونيًا ثم أعيد قراءته في نسخته الورقية حينما تتوفر وأتمكن من الحصول عليها.
- حدّثينا عن مكتبتك؟
ربما قد يبدو غريبًا للبعض حين أقول إن ثلاث غرف في بيتي خصصتها للكتب، مكتبة لأطفالي، ومكتبة لزوجي، ومكتبة لي، وربما تكون مكتبتي هي الأكبر بين المكتبات الثلاث، لعلاقتي الكبيرة بالكتب والكتابة، فمعظم ساعات يومي أقضيها في المكتبة، وبين الكتب التي تزين أرفف غرفة المكتبة التي تغلف جدرانها رفوف مليئة بالكتب، كطبقة عازلة لي عن ضجيج الحياة. أكثر الكتب التي تحتويها مكتبتي هي كتب الأدب والفلسفة، ولكن كتب الأدب تغلب، خاصة الروايات، كان في السابق يغريني أن تكون رفوف مكتبتي مليئة بالكتب، يعجبني منظرها ولكني لم أعد كذلك، بدأت أنتقي الكتاب الذي أضيفه إلى مجموعات الكتب، فلا يكفي أن أضع كتابًا لمجرد أن أملأ به مساحة فارغة في المكتبة، لقد اكتفيت من الموت الذي يحاصرني في هذا العالم، وأنا أبحث عن حياة أحبها في المكتبة وبين الكتب، حياة تعينني على استعادة نفسي كلما أضعتها بين متطلبات الحياة اليومية.
هناك كتب لا تضيف لك شئيًا أكثر من زحام بالأرفف، وأنا لست بحاجة إلى ديكور أزين به جدران مكتبتي، أنا بحاجة إلى أرواح تشعرني بالأمان كلما أغلقت على نفسي وجلست بينها، فالكتب كائنات مخلصة وفيّة لا تخون ولا تسيء لك، لذلك أثّثت بيتي بالكتب، وأعترف أن ما يقارب نصف أثاث بيتي كتب، وفي كل زاوية زرعت كتابًا ليكون في متناول أطفالي رغم أن لهم مكتبتهم الخاصة.
- ما الكتاب الذي تقرأينه في الوقت الحالي؟
في هذه الأيام أقرأ سلسلة مقبرة الكتب المنسيّة لكارلوس زافون، وهي القراءة الثانية لي لهذه السلسلة بترجمة المبدع معاوية عبد المجيد، وكأن موت الكاتب أعاد في نفسي الحنين إلى قراءة تلك المتاهة التي كنت قد غرقت فيها بصحبة مارتين ودانيال وإيزابيلا، شخصيات لا يمكن لنا أن ننساها، ولا يمكن لنا إلا أن نعيش معها كأرواح تسكن صفحات تلك المتاهة أو الملحمة، فكارلوس زافون قبل أن يموت دسّ روحه في تلك الكتب التي لا يمكن أن تكون منسية لمن قرأها.
اقرأ/ي أيضًا: