ألترا صوت – فريق التحرير
يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.
طه عدنان شاعر وكاتب مغربي يقيم ببروكسل. من إصداراته في الشعر: "أكره الحب" و"بسمتك أحلى من العلم الوطني"، وفي المسرح "باي باي جيلو" و"دنيا". كما أعدّ كتابين جماعيين: "بروكسل المغربية" و"هذه ليست حقيبة".
- ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟
منذ صبانا الأوّل، كان الوالد معنيًّا بأمر تدريبنا وتحريضنا - شقيقي ياسين وأنا - على القراءة. لذا فقد كانت سلسلة قصص محمد عطية الأبراشي والمكتبة الخضراء للأطفال تملأ وقت فراغنا بفائض الخيال. وقد واكب الوالد - الذي كان مدرّس لغة عربية - تنشئتنا القرائية الأولى من خلال اختياره كتبًا بغاياتٍ بيداغوجيةٍ محدّدةٍ كمؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي وجبران خليل جبران من أجل تعلّم حسن الصياغة والأسلوب، ثمّ كليلة ودمنة لِمَا يحتويه الكتاب من حِكَم ومواعظ، وسلسلة روايات تاريخ الإسلام لِجُرجي زيدان التي تُتيح معرفة التاريخ الإسلامي بأسلوب مشوّق.
- ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟
قد أسهو عن كتُبٍ عديدةٍ أثّرَتْ حتمًا في تكويني الأول، بل وفي كينونتي الأدبية بشكلٍ حاسم. فالقراءة مسار وصيرورة قد لا تدرِكُ لها بدايةً ولا نهاية. لكن، دَعْني أَسْتَعِدْ هنا طقس قراءتنا الجماعية للقرآن بعد صلاة المغرب... حيث بكّر الوالد باصْطِحابنا معه إلى المسجد - شقيقي وأنا - لقراءة الحزب. كان طقسًا عجيبًا واظَبْنا عليه بشغف، كما تدرَّبْنا فيه على القراءة السليمة من اللّحن.
ومع توالي الصفحات وتتالي الكتب، لا أعتقد اليوم أنّ للكتاب الواحد مهما علا شأنُه ذلك التأثير القويّ والمفاجئ الشبيه بصعقة الحب... والتي هي بدورها تعبيرٌ هلاميٌّ عن إحساسٍ مُبْهَم. لكنّني مع ذلك لن أنسى لحظة اكتشاف "ألف ليلة وليلة" في خزانة الوالد بمنزلنا في الرّيف. كانت خزانة شبه سرية في صندوق خشبي. هناك عثرنا - ياسين وأنا - على نسخة غير "منقحّة" من الليالي، صادرة عن منشورات مكتبة محمد علي صبيح وأولاده بالقاهرة في مطلع الأربعينيات. أربعة مجلّدات جعلت صيفنا الرّيفي يمرّ بأسرع من لحظةِ سعادةٍ عابرة. أسرَتْنا "ألف ليلة وليلة" بجرأة الخيال وحسيّته وبساطة السرد وسلاسته وارتفاع منسوب التشويق. كانت أول مرة نصادف فيها مشاهد إيروتيكية مثيرة بين دفتَيْ كتاب. وهذا أجمل ما يمكن أن يحدث مع مراهقَيْن في تلك الثمانينيات القاحلة. أعَدْتُ قراءة "ألف ليلة وليلة" أكثر من مرّةٍ وبالتذاذ متجدّد زمن اليفاع. بل صرتُ أتوق إلى قضاء عطلة الصيف في القرية لكي أعيد الاستمتاع بالليالي. ولستُ أدري إن كان ذلك مؤشّرًا على أن هذا المؤلّف كان الأكثر تأثيرًا في حياتي... لكنّ الأكيد هو أن رحلة البحث عن الكتاب المؤثّر، هي ما يشدّنا دومًا إلى القراءة.
- من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟
ليس لديّ كاتبٌ مفضّل، بل كُتبٌ اسْتَحْسَنْتُها في فترات معيّنة أو في سياقات خاصة. إذ لا أعتقد أن هناك كاتبًا خارقًا لا يُشَقّ له غبار... فيما ثمّة حتمًا أكثرُ من كتابٍ لافت. فلكلّ كاتبٍ كبيرٍ كتابٌ عمدةٌ يَدين له بتخليد اسمه في دنيا الأدب. فيما تبدو باقي المؤلفات كتنويعات إضافية في مساره الكِتابي. لذلك عشقْتُ "المعلم علي" لعبد الكريم غلاب، و"الأيام" لطه حسين و"الثلاثية" لنجيب محفوظ و"الأم" لمكسيم غوركي و"البؤساء" لفيكتور هيجو في مرحلة اليفاع. مثلما سحرَتْني رواية "الخبز الحافي" لمحمد شكري التي قرأتُها بالفرنسية أول مرّة وأنا في الثانوي بترجمة بديعة للطاهر بنجلون. كانت النسخةُ العربيةُ من الكتاب ممنوعةً في تلك الفترة. وكنتُ أستعْذِبُ خبز شكري الحافي بلغة موليير، أنا الذي تعذّبْتُ في قراءة "الدار الكبيرة" لمحمد ديب و"صندوق العجب" لأحمد الصفريوي، الرّوايتين اللّتين قرّر والدي - حارقًا كلّ المراحل - أن نقرأهما في نهاية المرحلة الابتدائية. ولحسن حظّنا أنه لم يقترح "الماضي البسيط" لإدريس الشرايبي، وإلّا لكان الأمرُ أشدَّ تعقيدًا.
- هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟
للأسف لا أملكُ رفاهية تلخيص ما أقرأه، ولا أدركُ الجدوى من ذلك... كما لا أملكُ ترف تسجيل ملاحظاتٍ على الكتب التي أقرأها، إلّا في حالة القراءة التوثيقية الملازمة لعملية الكتابة. أنا أدفن سحابة اليوم في وظيفة إدارية، لكي أختلس فرص القراءة المتقطّعة اختلاسًا في المترو (وهو ما يجعل رحلاتي اليومية أقصر ممّا هي عليه فعلًا، ولذلك أعشق القراءة في الرّحلات الجوية) أو قبل النوم (القراءة منوّم فعّال بالمناسبة). ولا أسترسل في القراءة بأريحيّة إلّا خلال العطل... من ذلك عطل نهاية الأسبوع التي تمرّ دائمًا بشكلٍ خاطف. الشيء الوحيد الذي لا أتردّدُ في القيام به، وبحماسة الموتورين، هو التسطير على الأغلاط التي تُعكّر عليَّ صفو القراءة. إنها طريقتي في الاحتجاج الصامت على التساهل البشع مع الأخطاء من طرف الكاتب والناشر على حدٍّ سواء.
- هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟
في بداية الألفية الجديدة، كنتُ من كبار المتحمّسين للثورة الرقمية الخضراء، فكتَبْتُ في "أكره الحب":
"وداعًا أيّتها الأوراق... وداعًا
وداعًا يا بنات الأشجار... وداعًا
ومرحى بعالَمٍ أكثر رأفةً بالغابات".
لكنّ العالَم لم يكن رؤوفًا بالغابات كما توهّمْتُ لأوّل وهلة. حيث سرعان ما تكالَب عليها الاحتباس الحراري والاستخفاف البشري لكي تلتهم ألسنة النيران مساحات شاسعة من الغابات كلّما اشتدّ حرّ الصيف.
لذا، وبعد عقدين من الزمن الرّقمي، أجدُني متشبّثًا بقراءة الكتاب الورقي دونما أبسط شعور بالذنب. فما أجمل أن تستلقي على السرير، أو فوق العشب، أو تحت الشمس على الشاطئ وأنت تحمل كتابًا بين يديك.
- حدّثنا عن مكتبتك؟
سأبدأ بمكتبتنا الأولى التي قدّمها والدي قربانًا أكلَتْهُ النار... قربانًا من أجل حرية أبنائه. كان ذلك قبل زمن الاحتباس الحراري وانبعاث الغازات الدفيئة.
في تشرين الثاني/نوفمبر 1991، اقتادني رجال الاستعلامات العامة - رفقة ياسين - إلى مركز الشرطة. خلال غيابنا، طوال نهارٍ من الاستنطاق، اقتحم والدي غرفتنا ليقوم بما يشبه إبادةً احترازيةً لمكتبتنا الصغيرة. كنّا قد بدَّدْنا في سبيل تجميعها جزءًا لا بأس به من منحتنا الطلابية الهزيلة. صحيحٌ أنّ المكتبة كانت تضمّ بعض العناوين الممنوعة من عيار "صديقنا الملك" لجيل بيرو - الذي كان قد جلبه لي صديق فرنسي - علاوة على بعض الوثائق التي كانت تودي بصاحبها في داهية كالبيان السياسي للمؤتمر 15 للاتحاد الوطني لطلبة المغرب. لكنها أيضًا كانت تضمّ مذكراتٍ مهذّبةً، مراسلاتٍ ورسائلَ غرامٍ، والوفير من الأدب النقي والمسالم. بعد العودة إلى البيت، حزنتُ لِما تعرّضَتْ له مكتبتُنا الناشئة من إتلاف. والتي ضاعت بإحراقها الكثيرُ من مسوّداتنا وصورنا الشخصية، إضافةً إلى كُنّاشٍ كنّا نُسجّل فيه عناوين الكتب التي تتمّ إعارَتُها للأصدقاء. لكن في اليوم الموالي، عندما داهمت المخابرات منزلنا ليلًا، كنتُ سعيدًا بالحِسّ الأمني العالي للوالد. فتّش رجال المخابرات البيت بشكل دقيق، ولحسن الحظّ لم يجدوا أمامهم سوى مجلدات "رأس المال" لكارل ماركس، وبعض الكتب مثل "الاستراتيجية الطبقية للثورة" لجورج طرابيشي، و"الثقافة والثورة" لمهدي عامل، وغيرها من المؤلفات التي رغم عناوينها الجسيمة كانت تُباع في المكتبات بشكل عادي. ومع ذلك حمّلوها معي بغباء وهم يقتادونني مكبّل اليدين معصوب العينين إلى مكان مجهول. بعد إخلاء سبيلي، عاودني الإحساس المرير بفقدان المكتبة. وكَمْ كانتْ سعادتي غامرةً كلّما ردّ لي صديقٌ كتابًا كنتُ أظنّه قد انتهى إلى رماد.
بعد خمسة أعوام من هذا الحادث المهول، أفلَتْتُ بجلدي إلى بروكسل. لم أحمل معي أيّ كتاب. وهو ما افتقَدْتُه هنا منذ أوّل قصيدة:
"حينما تُغَلَّق في وجهي
أبواب الأخْيِلَة
تحضُّني الأمّارةُ على أن أحذُوَ
حذْوَ صديقي ذي السرقات المرموقة
كساقَيْ صابرينا
فلا أجد لديَّ من القصائد
ما يكفي لتكرير الشعر
تبًّا لخزانتي الفقيرة...".
لكن، وعلى امتداد أزيد من عقدين، تكوّنَتْ لديّ مكتبةٌ زاخرةٌ تفيض بالكتب. ولا شيء يُسْعِدني اليوم أكثر من أن يطلب منّي صديقٌ استعارة كتاب.
- ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟
أقرأ بالفرنسية رواية "المصارع" لمولاي الصّدّيق الرّبّاج، والتي تُقارِب موضوعَيْ العبودية والعنصرية ضدّ ذوي البشرة السوداء من المغاربة في قالب حكائي ممتع وسياقات بطولية بالغة التشويق، وبالعربية "جمهورية كأنّ" لعلاء الأسواني التي تستعيد أحداث ثورة 2011 المصرية.
اقرأ/ي أيضًا: