ألترا صوت – فريق التحرير
يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.
عبد الله حبيب سينمائي وشاعر كاتب من عُمان، له مؤلفات في السينما والشعر والسرد. كما له أفلام قصيرة. من مؤلفاته: "ليلميات"، و"قشة البحر: في سرد بعض ما يتشبث"، و"صورة معلقة على الليل: محاولات في الشعر والسينما والسرد". كما ترجم كتاب روبير بريسون "ملاحظات في السينماتوغرافيا".
- ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟
أتمنى ألا أكون قسري الشَّعرنة حين أقول إني جئت إلى العالم مع الكتب بالمعنى الحرفي تقريبًا. لقد حدث ذلك ضمن ظروف، ومفارقات، وتناقضات أزعم أنها استثنائية وستسهم في صياغة انحيازاتي الفكرية والأخلاقية والسياسية مبكرًا، وليس هذا من حميد الأشياء بالضرورة؛ وذلك لأن التضحيات، والضرائب، والقلق فيها كانت أكثر بكثير من "المردود الإيجابي". ما حدث هو أنني ولدت في قرية عُمانية بحرية بدائية وصغيرة عدد سكانها لم يكن يزيد عن حوالي مائتين وخمسين نسمة في ذلك الوقت الذي كان يكابد فيه العُمانيون كل ضروب المعاناة، والعسف، والعذاب قبل التغيير السياسي الذي شهدته البلاد في 23 تموز/يوليو 1970، والذي بدأت أمور الحياة تتحسن بعده. كان هناك فقر مدقع، وشقاء فادح، وخرافات وشعوذات في العيش. لم يكن ثمة تعليم، ولا كهرباء، ولا راديوهات، ولا تطبيب خارج العلاج الشعبي.. إلخ. لكن المفارقة الأولى هي أنني ولدت في بيت يتوافر فيه بعض ذلك فقد كان والدي من فئة اجتماعية أهَّلته أن يكون الشخص الوحيد المتعلم في كامل القرية (ولا أقصد هنا التعليم الحديث بل التعليم التقليدي، وذلك بالطبع لم يكن براء من جانب فيه مسحة طبقيَّة بالمعنى العام للتعبير حتى ضمن ذلك الوضع البائس)، وبهذا ابتدأت الكوارث. هكذا كان مجيئي الى الحياة في بيت يتوافر فيه ما لا يوجد في بيوت القرية: الكتب التي -إضافة إلى الصحف والمجلات كـ"العربي" و"البيان" التي كانت تصل بصورة غير منتظمة من الكويت - كانت من أوائل ما شاهدت، وشممت، ولمست. وإذا لم تبالغ ذاكرتي في استعادتها اليوم فإن ذلك جعلني أتعامل مع الكتب على أنها من أفراد العائلة كالأم، والأخوات، والقطط، وحظيرة المواشي الصغيرة؛ غير أن المفارقة الثانية هي أن ذلك جعلني أواجه سؤالًا صغيرًا (سيكبر بسرعة ربما أكثر مما ينبغي بتدرج الوعي): لماذا توجد الكتب في بيتنا ولا توجد في بيوت الآخرين؟ بعد ذلك بوقت قصير، حين أخذني الوالد إلى مدينة أبو ظبي ودخلتُ في بعض البيوت المدينيَّة ذات التجهيزات الحديثة أصبح السؤال: لماذا لا يوجد في بيتنا ما يوجد في بيوت الآخرين؟ ولأن أبي كان متعلمًا بالمعنى الذي أسلفتُ فقد تعجلت علاقتي بالكتب من خلال مسارعته إلى تعليمي القراءة والكتابة مبكرًا بطرق منها الصبر والأناة ومنها الضرب والصلب؛ حيث لم تكن هناك مراهنات كبيرة على تغيير سياسي وطني يأتي بحق التعليم العام معه، فقد كانت تلك من مهمة الشخص/ الأب وليس من واجب الدولة التي كانت لا تزال تعيش في القرون الوسطى. والحقيقة هي أنه حين حدث ذلك التغيير السياسي والتحقت بالصف الأول الابتدائي كنت أقرأ وأكتب بصورة معقولة بفضل الأب وتعليم البيت، ولذلك فقد كانت الدروس المدرسية تضجرني. لكن مكتبة الوالد (وهذه هي المفارقة الثالثة) كانت تحتوي على كتب دينية وفقهية أكثر من الكتب الأدبية والسياسية، فشعرت بنفور كامل من الكتب الدينية بينما انهمكت في انجذاب كامل نحو الكتب الأدبية. وهنا كانت بعض بذور الصراع بين الابن والأب الذي كان يعدّني مبكرًا كي أكون فقيهًا مثله لأحافظ على التراث الديني للأجداد. وهذا صراع تطور سريعًا بدوره وبطريقة فيها الكثير من القسوة والحزن المشترك. هكذا أسهمت الكتب في انفصالي الحرفي والمجازي السريع عن الأب، والعائلة، والبيت وتقاليده، والمؤسسة البطريركية اختصارًا. وهكذا أسست الكتب لتاريخ من المرارة والتمرد الذي تجلى مع مرور الوقت بأشكال بعضها متطرف.
- ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟
هذا سؤال يربكني في كل مرة يتم فيها توجيهه إليّ، والسبب ببساطة هو أني لا أعرف الجواب حقًا وأتردد في توجيه سبّابة الجزم والجواب إلى كاتب أو كتاب بعينه. وإلى هذا فإنني لا أرتاح كثيرًا إلى "الـ" التعريف في العربية، لأنها تجلب "المونوليث" فورًا إلى رأسي. أعتقد أن كل مرحلة عمرية ومعرفية ارتبطت لدي بكتب معينة ثم لا تلبث أن تزيح المجال لغيرها.. في هذه الفترة من حياتي صرت أعتقد أن "الكتب المهمة" هي شغل الطلبة والأساتذة في الجامعات، أما الكتب "الأكثر أهمية" فهي ما يعني دمك، ولحمك، وذاكرتك، ومخاطك، ودموعك. في الفلسفة أسهم نيتشه كثيرًا (وخاصة في "جينيالوجيا الأخلاق") في إنقاذي من الدوغمائيَّة و"الحتميّة التاريخيَّة" و"الديالكتيك" الذي سيوصلنا إلى الاشتراكية السعيدة في الماركسية، ولكني لا أزال أعتقد أن أعمال "ماركس الشاب" هي من أفضل ما كُتب في تاريخ البشرية. في نظرية السينما تبهرني كثيرًا الشكلانية الجديدة في اجتهادات ديفيد بوردويل على الرغم من أنه – للمفارقة -- عدوّ صريح (يكفي أنه هو من صاغ مفهوم “SLAB Theory” للتقليل من المساهمات الهائلة لدو سوسير، وجاك لاكان، ولوي ألتوسير، ورولان بارت في النقد السينمائي). وفي إطار النصوص التأسيسية في النظرية السينمائية فإني أعتقد أحيانًا أن بازوليني هو الأعمق والأفضل ومن الأكثر تأثيرًا عليّ خاصة لجهة تمزقه الانتحاري بين المسيح، وماركس، وفرويد، وهو تمزق نبيل جعله يدفع حياته اللاهثة ثمنًا لذلك بصورة بشعة في ذلك الاغتيال الشنيع؛ غير أني أرى أحيانًا (ولست وحدي في ذلك) أن تلك النصوص مسلوقة سلقًا عوضًا عن أن تكون مطهوة طهوًا إلا فيما ندر كما في "سينما الشعر".
- من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟
هل تصدق أنني أغرمت مثلًا بنزار قباني في مرحلة العادة السرية، بل إني نسجت على منواله في محاولاتي الشعرية الأولى والتي لحسن الحظ لم أنشرها بل أحرقتها جميعًا! في الرواية والسيرة الذاتية ابتهلت طويلًا في محراب حنَّا مينه (الذي حصلت لدي مقارنة تلقائية بينه وبين نجيب محفوظ) ونيكوس كازنتزاكي، ثم اختطفني كافكا في المجالين، وذلك حين أيقنت أن المسألة لا تكمن في أهمية ما تقرأ، بل في درجة اقتراب ما تقرأ من تجربتك وحياتك بصورة تخاطريَّة ومباشرة.
- هل تكتب ملاحظات وملخصات لما تقرأه عادة؟
كلا، لا أفعل ذلك الآن بعد أن كنت أقوم به لاعتبارات دراسيَّة كان فيها تقديم ملخصات الكتب من الواجبات والفروض. ما أقوم به بصورة غير نظامية هو كتابة ملاحظات مقتضبة في هوامش صفحات الكتب التي أقرأ، وكذلك رسم صور (صورة النجمة، مثلًا، أو إشارة "صح" أو "غلط"، أو حروف ترميزيّة)، أو وضع خطوط تحت بعض السطور بصورة مزاجيَّة في الغالب. يجعلني سؤالك هذا أستحضر صديقًا عزيزًا يحتفظ بملخصات وتعليقات عن العدد الهائل من الكتب التي قرأها منذ الستينيات ولغاية الآن، بل إنه حين جاء عصر الكمبيوتر نقل ملاحظاته المكتوبة على الورق إلى الشاشة، لكن قلة من لديهم مواظبة، وانتظامية، وشغف محمد عبيد غباش. لكن بما أن الكتب "نصوص" والأفلام "نصوص" أيضًا، وأنا لي علاقة ما بالسينما فأرجو أن تسمح لي أن أيمم سؤالك شطر السينما التي ابتدأت علاقتي بها بصورة جادة حين سافرت إلى بريطانيا للدراسة في 1985. قبل ذلك لم أكن قد شاهدت إلا عددًا قليلًا من الأفلام التجارية، ولم يكن لدي الحد الأدنى من الأدوات النقدية السينمائية. لكن المفارقة هي أن بدايات الهوى السينمائي لدي تزامنت مع واحدة من أسوأ المراحل على صعيد الصحة النفسية. هذا التزامن جعلني راغبًا في كتابة مدونات سينمائية أرى وأروي فيها نفسي لنفسي، فكانت تلك الكتابات (والتي كان بعضها طويلًا) أشبه باليوميات التي يأتي فيها التأمل السينمائي من خلال التشظي الشخصي. ولا أزال أكتب بعض التدوينات السينمائية عن الأفلام التي أشاهدها وأنشرها في صفحتي في "الفيسبوك" بين الحين والآخر.
- هل تغيرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟
عليّ الاعتراف أنني شخص بدائي ومتخلف في التعامل مع أدوات ووسائل تكنولوجيا ثورة المعلومات الهائلة. وإن وعدتني ألا تبوح بهذا لأحد فسأسر لك أني لا أزال لا أفقه من الكمبيوتر (حتى بدون أن يكون مزودًا بخدمة الانترنت) سوى ما هو أقل من العمليات المبدئية والبسيطة. لكن هناك مشكلة في مسألة هذا الحنين البدائي "القديم"؛ فمن حقك ان تسأله فورًا: لكن ما معنى كلمة "قديم" بالضبط؟. وإن قلت لك إني أفضّل القتال بالطرق "القديمة" فلن يكون من قبيل السخرية أن تتساءل: وهل كنت تقاتل بالأساليب "القديمة" قبل اختراع المنجنيق أم بعده؟ وإن أبديت إعجابك بعصر النبلاء الأوروبيين (الذي خارج رمنسة الشعراء غير المسؤولة كان من أسوأ عصور البطش، والعسف، والاضطهاد) فأول سؤال وجيه ينبغي طرحه هو: إذًا لماذا تقاتل دفاعًا عن الحداثة السياسية؟ وهلم جرا. مفردة "قديم" هذه لا معنى لها بل هي كلمة عامة ومضللة مثل كلمة "قميص". كلمة "قديم" لا تعني سوى العجز، والبؤس، والاضطراب أمام نهر الحياة حيث "نحن لا نستطيع الاستحمام في النهر ذاته مرتين" كما في المقولة الفلسفية الشهيرة. كلمة "قديم" ليست أكثر من "ثقفنة مثاليّة" لعالم كان أكثر بؤسًا ورعبًا. كلمة "قديم" لا تعني غير أنك لم تعرف القسوة التي عاشها الملايين قبلك، ولذلك فإنك تقريبًا تتلذذ بها الآن. لكن عليّ القول إنني مشدود إلى "القديم" في واحد من أسوأ تناقضاتي. لا أستطيع من ذلك فكاكًا. وهكذا فإنه ليس لدي جهاز "كندل" مثلًا، ولا أقرأ النسخ الإلكترونية من الكتب إلا في أحوال نادرة منها عدم توافر نسخة ورقية من كتاب نادر وممنوع ويهمني كثيرًا.
- حدثنا عن مكتبتك.
بدأت عمليًا في تكوين مكتبة خاصة بي في 1977. والآن بعد اثنين وأربعين سنة في 2020 يفترض أن تكون لديّ مكتبة "بورخيسيَّة"، ولكن هذا ليس واقع الحال. لماذا؟ لأن مكتبتي دأبت على التضحية بأجزاء منها نتيجة لظروف مؤسفة خارج إرادتها وإرادتي كل كذا سنة مرة. هنا لا أقصد "استعارات" الأصدقاء للكتب التي لا يعيدونها (وفي هذا الإطار أظن أن الراحل العزيز أحمد راشد ثاني سيواجه أسئلة صعبة في يوم القيامة) بل بمعنى أنه تتكاتف كائنات الأرض (مثل الحشرات والرمّة) وكائنات السماء (مثل المطر) في حرماني من مكتبتي شلوًا شلوًا. مثلًا، في 1985 بلغت مكتبتي ما لا بأس به. ليس هذا فحسب، بل إني كنت مؤرشفًا دقيقًا لكثير من الملاحق الثقافية التي كانت تصدر في منطقتنا مثل "ملحق الفجر الثقافي"، و"ملحق الخليج الثقافي"، و"ملحق الاتحاد الثقافي" إلى حد أنه كان لدي أرشيف شبه كامل للصفحات الثقافية التي كانت تصدر في مجلة عمانية حمقاء اسمها "الأسرة". ولكن كان عليّ السفر إلى بريطانيا للدراسة في ذات العام (أي 1985). لأسباب خارج إرادتي تعرض نصف المكتبة لـ"عوامل التعرية" بسبب سوء ظروف التخزين. تكرر نفس الأمر أثناء غيابي الثاني بعد ذلك بسنوات، وهكذا كان غيابي عن مكتبتي يسهم في غيابها عني. أقيم الآن في شقة صغيرة مع بقايا المكتبة، وبقايا ذكريات.
- ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟
هذا سؤال جيد لأنه يتواكب مع شيء لم أعشه من قبل إلا في فترة الدراسة حيث يكون لزامًا على المرء أن يقرأ عدة كتب، أو عدة فصول من كتب، في نفس الوقت. لكن فيما يتعلق بالقراءات الاختيارية فقد كان ديدني هو قراءة كتاب واحد فقط في الحيز الزمني الواحد. مؤخرًا تغير هذا إذ صرت أقرأ أكثر من كتاب في نفس الوقت، لكني أكتشف أني لست مؤهلًا لذلك بسبب تواضع قدراتي في التركيز. أقرأ الآن ثلاثة كتب في نفس الآن وبنتائج محدودة للغاية: "ثلاث سنوات ونصف مع ناظم حكمت" لأورهان كمال. ناظم حكمت يعني لي الكثير فيما يتعلق بتأسيس الذاكرة السياسية والأدبية، وهذا كتاب شخصي وحميم من حيث أنه يحكي عن رفقة وتأملات فترة السجن التي اشترك فيها الكاتب مع المكتوب عنه. أما الكتاب الثاني فهو "سحر النوم" لمايكل أكتون سميث حيث تأتي قراءتي لهذا الكتاب في سياق حواري مع مرض الأرق المزمن الحاد الذي أنا مصاب به. أما الكتاب الثالث فهو "السينما ما بعد الكولونيالية: التاريخ، الإمبراطورية، المقاومة" لربيكا ويفر هايتور وبيتر هولم وذلك في إطار اهتمامي بالدراسات النقدية السينمائية.
اقرأ/ي أيضًا: