ألترا صوت - فريق التحرير
يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.
عبّاس سليمان قاصّ وروائيّ ومُترجم وباحث من تونس. مهتمّ بأدب الطّفل. نشر ثماني مجموعات قصصيّة هي على التّوالي: "موتك يقتلني" و"أيّام العطش" و"لا موت بعد اليوم" و"رأسي الجديد" و"بنت الحرام" و"أنا آسف جدًّا" و"خطاب الرّئيس" و"ككلّ يوم". وستّ روايات هي: "النّسيان" و"جحيم في الجنّة" و"أيّام إضافيّة أخرى" و"سفَر التّيه" و"قبيْل الشّروق" و"كاتب عمومي"، وراوية لليافعين سمّاها "كم كنت غبيًّا"، وترجم لـلباحثة الفرنسيّة مارڨـريت آلتي كتابها الشّهير: Les pédagogies de l’apprentissage.
- ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟
لا أعتقد أنّ الذين جاؤوا إلى الكتابة جاؤوها عن سابق إضمار وترصّد.
لا أعتقد أنّ هناك من فكّر وقدّر وخمّن وقرّر أن يصبح ذات يوم كاتبًا.
الكتابة مشروع يأتي فجأة.
الكتابة مشروع يأتي بغتة.
الكتابة مشروع يأتي أيضا جرأة.
ولكنّني أجدني مدينًا إلى محفّزاتٍ ثلاثة لا أشكّ في أنّها كانت وراء مجيئي إلى الكتابة وإلى عالم الكتب.
فأمّا أوّلًا، فتلك السّهرات اللّيليّة التي كانت تلتئم في بيتنا وبيوت الجيران والتي كنت أحرص على ألّا يفوتني منها شيء وألّا أتركها للّعب مع أقراني أو للذّهاب إلى النّوم. كم كان جميلًا أن ظللنا زمنا نعيش بلا تلفزة ولا كهرباء، كم كان جميلًا أن كان في حيّنا الصّغير حكّاؤون وحكاّءات لا يجفّ حديثهم ولا يملّ أحد أساليبهم ولا ينكر أحد طرافتهم... كانت حكاياتهم مبنيّة وفق هندسة عجيبة تأخذ في الاعتبار وضع البداية والأحداث التي تليه والخاتمة التي تؤول إليها، وتحمل من ينصت إليها على أن يشعر بالخوف حينًا وينفجر ضحكًا حينًا آخر، وعلى أن يتنبّأ بالأحداث القادمة وعلى أن يقيم بينه وبين نفسه محاكمات للشّخصيّات التي تعجّ بها تلك الحكايات وأن يحبّ بعضها ويتمنّى لبعضها الموت الزّؤام... تلك السّهرات كم ملأت رأسي الصّغير بالقصص وكم شجّعت خيالي على أن يعيش عوالم أخرى وكم جعلتني أدرك باكرا أنّ الحياة حكايات جميلة.
وأمّا ثانيًا، فكتبيّات كان يهديها إليّ معلميّ وينصحونني بقراءتها ويطالبونني بتلخيصها وإبداء الرّأي فيها.. كانت قليلة تلك الكتب الصّغيرة، ولكنّي كنت أقرأها وأعيدها بل إنّ الأمر ليصل بي أحيانًا إلى أن أشرك في قراءتها بعض أصحابي لأدعوهم إثر ذلك إلى تحويلها إلى تمثيليّات إرضاء لمعلّميّ وردًّا لجميلهم ودليلًا على أنّي قرأت ما نصحوني بقراءته وتجاوزت القراءة إلى تجسيد الأدوار وأشركت معي أصدقاء آخرين.
وأمّا ثالثًا، فحظّي الذي جعلني أدرس العربيّة لدى أساتذة يتكلّمونها بطلاقة ولهم من الثّقافة والذّكاء والخيال والنّقد، ما يجعلهم يحلّقون بتلاميذهم أثناء الدّرس بعيدًا يعيدًا، رادّين حبّهم لهذه اللّغة الجميلة إلى إدمانهم منذ الصّغر ارتياد المكتبات واقتراض الكتب وتبادل المجلّات والجرائد والكتب المصوّرة وكانت شحيحة لا تتوفّر إلّا بمقدار.
حكايات كانت تؤثّث ليلي وكتيبّات كان يهديها إليّ معلّميّ وأساتذة كانوا العربيّة الفصحى تمشي بيننا وتقف أمامنا وتخاطبنا وتحاورنا وترغّبنا فيها وتدعونا إلى حبّها من خلال حبّ القصص والكتب والرّوايات... تلك كانت دوافع جعلتني أقتحم عالم الكتب، وأفكّر كيف أتجاوز القراءة إلى الكتابة وكيف أتمنّى أن أتشبّه بهؤلاء الذين يكتبون ويبهرون القرّاء بخيالهم وأفكارهم.
والآن، يلازمني سؤال ويلحّ عليّ: كيف كنت سأكون لو لم تصبني لوثة الكتب؟ هل كنت سأكون أسعد منّي الآن؟ هل كنت سأكون أعقل منّي الآن؟ أم كنت سأكون مصابا ببعض جنون؟ هل تحقّق معاشرة الكتب الرّاحة والسّعادة؟ هل تثبّت الكتب العقل وترسّخه وتجعله يلزم مكانه ولا يخرج عمّا ضُبط له من حدود؟ وهل إدمان الكتب جنون أم وقاية من الجنون؟
ليس مهمًا أن تجد هذه الأسئلة أجوبة، لكنّ الثّابت أنّه لا يطرح مثلها إلّا رجل يتأرجح بين العقل والجنون.
- ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟
رغم يقيني بأنّه ليس سهلًا أن يحدّد كاتب الكتاب أو الكتب التي حفرت فيه عميقًا ولوّنت حياته وجعلتها تسير على نحو مختلف أو على نحو معيّن، فإنّني لا أستطيع أن أنسى مثلا "أيّام طه حسين" التي قرأتها مرّات عديدة وعاشرتها زمنًا حتّى تمنّيت في لحظات مّا لو كنت طه حسين على إدراكي عاهة العمى التي ألمّت به. ذلك الكتاب، كم كان بسيطًا وعميقًا وكم كانت لغته محكمة متينة مضغوطة كقطعة سكّر.. ثمّة كتب تُقرأُ بدقّات القلب وبلفحات الأنفاس وباختلاجات الصّدر.. ولعلّ "الأيّام" كان من بينها.
وأنا لا أستطيع أن أنسى مثلا "نهاية الأمس"، كتاب الجزائريّ الرّائع عبد الحميد بن هدّوقة، ذلك الكاتب كان يكتب روحه وكان بعيدا عن التكلّف والبهرجة وكان لما يكتب أثر عميق والكتاب الذي لا يخلّف في نفس من يتلقّاه أثرًا هو حرثٌ على وجه ماء.
ولعلّني انتبهت بعد أن صدر كتابي الأول إلى أنّه لم يكن من باب المصادفة أن قصّتي الطويلة "موتك يقتلني"، التي انسحب عنوانها على المجموعة برمّتها كانت تروي حكاية حلول معلّم بإحدى القرى وما لاقاه فيها من متاعب ومصاعب، وما اكتشفه فيها من علاقات وعادات وعجائب وغرائب... لعلّ كلّ ذلك كان انعكاسًا على نحو مّا لحكاية معلّم بن هدّوقة أو بن هدّوقة المعلّم الذي حلّ ذات أيلول/سبتمبر من عام 1967 بقرية تابعة إلى ولاية سطيف ليفتتح فيها مدرسة مع ما تلى ذلك من مصادفات ومغامرات ورومانسيّات وإصرار على تجاوز العراقيل.
- من هو كاتبك المفصّل؟
الحقيقة أنّه ليس لي كاتب أفضّله على آخرين، فبملازمة الكتب ومعاشرتها لا يبقى أمامك إلّا الكُتّاب الجيّدون، وهم أنفسهم الكُتّاب المفضّلون والمُحبّذون لديك. تلك هي ذائقة القارئ، ذائقة تتّسع لكلّ المبدعين الحقيقيّين كما تتّسع السّماء لكلّ النّجوم. الكتابة ألوان وروائح وأساليب وحيلٌ تختلف من كاتب إلى آخر... وما أشدّ حاجة القارئ إلى ذلك الاختلاف... يبهرك هذا بلغته السّاحرة وزوايا التقاطه الطّريفة ويشدّك الآخر بحيله وذكائه وألاعيبه ويسحرك غيرهما بسعة خياله ويضحكك كثيرًا غير أولئك جميعًا بقدرته على السّخريّة والتّفكّه والنّقد.. وأنت في حاجة إلى ذلك كلّه لا تستطيع أن تقرأ إلّا باحثًا عن الضّحك و المتعة و التّخيّل و المغامرة.
إنّ ما يبحث عنه قارئ نهمٌ لا يمكن أن يُختصر في كاتب واحد لأنّه ليس ثمّة كاتب يمكنه أن يجمع بين كلّ الأساليب المطلوبة والحيل السّردية الكثيرة ويلمّ بالمواضيع الطّريفة... تحتاج الكتابة سردًا وشعرًا إلى كتّاب كثيرين ليصبح ممكنًا الحديث عن مشهد شعريّ أو سرديّ تجتمع حوله الذّوائق على اختلافها وينشدّ إليه القرّاء على تباعد أزمانهم وثقافاتهم وميولاتهم.
يحتاج الشّعر مثلًا إلى الحماسة وإلى الحبّ وإلى الوطنيّة وإلى القيَم وإلى استنهاض الهمم وإلى تخليد المعارك.. ويحتاج السّرد إلى الكتابات الضّاربة في الخيال عميقًا وإلى تلك المتوسّلة بالرّمز وإلى كتابات أخرى تقدّس الواقع تقديسًا.. يحتاج السّرد إلى الجدّ وإلى الهزل وإلى البساطة وإلى العمق... تحتاج الكتـابة كلّ ذلك ويحتاج القارئ كلّ تلك الألوان، ولعلّه لذلك سيكون على علاقة بكتّاب كثيرين كلٌّ منهم أثيرٌ لديه.
- هل تكتب ملاحظات أو ملخّصات لما تقرأه عادة؟
اعتدت أن أخصّص لقائي الأوّل بكلّ كتاب أتناوله للقراءة دون غيرها على أن أعود إليه مسطّرًا تحت بعض جمله وعباراته، ومالئًا جداول بشخصيّاته وبعض أحداثه ومفصّلًا أزمانه وأمكنته وواضعًا الاستنتاجات التي ينبغي أن توضع، وذلك كلّما دفعني ذلك الكتاب الى أن أحرّر حوله ورقة نقديّة.
قد لا تحتاج القراءة التي ليس بعدها شيء إلى وضع ملاحظات، ولكنّ القراءة التي ستعقبها كتابة تحتاج إلى أن ترفق بخربشات وكتابات واستنتاجات تُخطّ في حينها حتّى لا ينسى منها شيء.
أذكر جيّدًا أنّني كثيرًا ما وجدت على صفحات الكتب المستعملة خاصّة آراء وملخّصات وملاحظات، وأذكر أيضًا أنّ كثيرًا من تلك الخربشات أنار سبيلي وفتح ذهني على مسارب مختلفة للفهم والتّأويل... للقارئ طبعًا أن يكتب على كلّ كتاب يقع بين يديه طالما أنّ الكتاب بخروجه إلى النّاس لم يعد ملك الكاتب وحده، بل إنّه لم يعد ملكًا له إلّا بالاسم وبمقتضيات حقوق التأّليف... الكتاب ملك مشترك وما أجمل أن يشترك في الكتاب من كتبه وكلّ الذين سينالهم حظّ قراءته.
- هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكترونيّ؟
بعدما أصبح الكتاب الالكترونيّ متوفّرًا وبعدما أصبحت قادرًا على البحث عنه وتنزيله والتّعامل معه، زال خوفي تمامًا من أن يكون هذا الوافد الجديد عدوًّا لدودًا للكتاب الورقيّ. هما في نظري أخوان شقيقان لا ينبغي أن يضير أحدَهما وجودُ الآخر. للأوّل زمنه الذي لم ينته ولن ينتهي، وللثّاني حضوره الذي فرضه تطوّر الصّناعة الالكترونيّة وانتشار وسائل الاتّصال الحديثة. قد أجد الورقيّ فأستغني عن الالكترونيّ وقد أعجز عن توفير الأوّل فأهرول إلى حاسوبي طالبًا منه أن يمدّني بالثّاني فيلبّي الأمر في بضع دقائق بلا جهد وبلا مقابل. ليس لي سوى أن أقول شكرًا بلا حدود لأصحاب المطابع ولدور النّشر ولمعارض الكتب التي لم تتخلّ يومًا عن تزويدنا بالمنشورات الورقيّة، وليس لي سوى أن أقول شكرًا أيضا بلا حدود لهذه الثّورة الاتّصاليّة التي وضعت أمام القرّاء والدّارسين والبحّاثة كمّا هائلًا من الكتب يكون جاهزًا أمام أعينيهم وعلى سطح حواسيبهم بمجرّد نقرات معدودة.
- حدّثنا عن مكتبتك؟
هل أقول مكتبتي أم أقول مقهاي وناديّ وصالوني؟ هل أتحدّث عمّا فيها من كتب أم عمّن فيها من أصحاب لا شيء كان سيجمع شملهم ويوحّد زمنهم ويربطني بهم لو لم يكونوا كُتّابًا؟
أستطيع أن أمرّ في وقت واحد على الجاحظ وامرئ القيس والخنساء وعنترة والتّوحيدي والمعرّي وكافكا وموباسّان ودويسدفسكي والشّابّي والمسعدي والبشير خريّف وعلي الدّوعاجي وحنّا مينة وأمير تاج السّرّ وفدوى طوقان ونزار قباني...
قلت هي مقهاي ولكنّها مختلفة عن كلّ المقاهي الأخرى، فأنا أدخل إليها متى شئت وأجلس فيها إلى من أختار دون أن يتطفّل عليّ أحد ولا أن تزعجني روائح التّبغ، إذ لا أحد من المحيطين بي يدخّن أو ينفث نحو السّقف دخان النّراجيل أو يرفع صوته غاضبًا أو حانقًا أو مخاصمًا أو ضاحكًا أو آمرًا.. الصّمت يرين... يرين الصّمت... والاحترام المتبادل هو سيّد الموقف...
ولقد اعتدت أن أتعهّد مكتتبتي الصّغيرة بالتّنظيف والتّرتيب وأن أعيد إليها النّظام الذي تفقده من مدّة لأخرى ونسجت قليلًا على منوال نظام المكتبات العموميّة فخصّصت رفوفًا للقصّة وأخرى للرّواية ورفوفًا للشّعر وأخرى للأدب الأجنبيّ وأمكنة للمجلّات، وجانبًا لمؤلّفات النّقد وذلك حتّى يسهل عليّ البحث كلّما عنّ لي أن أعود إلى كاتب أو إلى كتاب لأمر مّا.
تلك مكتبتي التي بنيتها حجرًا حجرًا أو كتابًا كتابًا... أنا الآن معتزّ بها لأنّها كثيرًا ما روت عطشي وملأت وقتي ولبّت حاجتي وهدتني إلى معاشرة طوائف من الكتّاب والشّعراء والنّقّاد اختلفوا في أزمانهم واتّفقوا في حبّهم للكتابة، وإصرارهم على ترك آثار تديمُ ذكرهم وينتفع بها النّاس من بعدهم... ولكنّه عليّ أن أتحدّث عن مكتبة أخرى يحملها حاسوبي وفيها ما لا عدّ له من الكتب... هي أيضًا ملاذي وملجئي أعود إليها عند القلق وعند الفراغ وعند الحاجة وعند البحث وأعاشرها معاشرة لا انفصام لها.
كيف يقضي من لا مكتبة له ومن لا يملك حاسوبًا فيه كتب وما شابهها وقته وحياته وكيف يسير عمره؟ ذلك ما لا أفهمه ولا أستطيع أن أفهمه.
- ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحاليّ؟
على طاولتي هذه الأيّام ثلاثة كتب هي "أحفاد سارق النّار" لشكري المبخوت و"الجريمة" لفرج الحوار و"ميار.. سراب الجماجم ثمّ ماء" لمصطفى الكيلاني... قد لا يكون من باب المصادفة أنّ هذه الكتب ثلاثتها هي لكتّاب تونسييّن، فأنا محبّ للأدب التّونسي مهتمّ به قراءةً ومتابعةً أتصيّد إصداراته وأتلقّفها شراءً واستعارةً وتنزيلًا وأجد فيه حلاوةً لا أجدها غالبا في غيره... ولعلّ الذين سُكِنوا بعقدة الأجنبيّ إنّما سُكنوا بها لأنّهم لم ينظروا في ما يكتب ساردونا وشعراؤنا... صحيح أنّ الأدب لا يُجنّس ولكنّي سأظلّ مصرّا على أنّني أجد لما يكتب كثير من التّونسيّين المجدّين سحرا ليس كمثله سحر.
اقرأ/ي أيضًا: