ألترا صوت - فريق التحرير
يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.
علي شمس الدين شاعر وكاتب من لبنان. مقيم في لندن منذ 2007. متخصص بأنساق تكنولوجيا المعلومات وأسواقها الجديدة، يعمل في مجال الهوية الرقمية والسلوك البيومتري الأمين. مهتم بالشعر والفلسفة والأدب وتقاطعاتهم في ومع التغيير الذي تحدثه التكنولوجيا الجديدة في الاجتماع والسياسة وسرديات الخطاب المتصارعة في هذه السياقات. يكتب الشعر والمشاهدات النقدية أحيانًا. ينشر في صحف ومواقع إلكترونية مختلفة.
- ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟
علاقتي بالكتب نمت خلال ثلاثة مراحل. كان والداي يمتهنان تدريس العربية، وأبي كاتب للشعر ونحوي. رفوف الكتب كانت جزءًا من أثاث المنزل وفي صدره. وذاكرتي البصرية تحتفظ بأغلفة كتب التراث، من الأصفهاني إلى النويري، مرورًا بالمسعودي والجاحظ وغيرهم. كما كانت مكتبة الوالدين تضم دواوين الشعراء الحديثين، بأغلفة متشابهة، بينها أعمال أمل دنقل وفدوى طوقان والجواهري ونازك الملائكة وأدونيس وغيرهم. هذا إلى كتب طه حسين ودوستويفسكي ومارون عبود وميخائيل نعيمة وأحمد فارس الشدياق. مجلة شؤون فلسطينية كانت جزءًا من المشهد أيضًا، ولحقت بها أعداد مجلة الناقد.
مكتبة والدي كانت ملعبي الأول، لكنني حين أقمت في شارع الحمرا ببيروت بدأت علاقتي بالكتب تخرج عن سطوتها. منذ العام 2000 انتسبت إلى حلقة نقاش فكري كانت تقيم جلسة أسبوعية بين مقهيي الويمبي والمودكا، وتعرفت مع هذه الحلقة على الفلسفة المعاصرة والأدب الغربي والمفكرين الراديكاليين، ويومها جربت حظي مع كارل ماركس رغم الصعوبة البالغة التي واجهتها في قراءته.
الحمرا عرفتني على شعراء لبنانيين وعرب لم أكن أعرفهم من قبل. كان هذا يشبه تغيير الجلد وكان محفزًا لي لمغادرة منزل الأهل، وهذه مغادرة لسلطة التلقين، والسرديات الكبرى، والمثالية الأخلاقية، والترصيع اللغوي والأيغو العروبي المجروح، وكلها كانت مهيمنة على نتاج جيل الأهل. أذكر أنني كنت أحمل حنا مينه وهنري ميلر ومحمود درويش معا في حقيبة الظهر. ورغم افتتاني بدرويش وتحولاته، وفخري بخيمتنا المشتركة، إلا أنني كنت أشعر أن مارده أسر اللغة وسيطر على مدى التعبير ونمَّط سبل التأويل والإحساس. في حين كان حنا مينه يوقظ حرارة المتع العادية فيَّ وميلر يفتح أفق الجسد المديني كبداية لسؤال ملح لم أكن أعرف كيف أطرحه من قبل. الحمرا وبيروت كانتا بمعنى ما مكتبة عامة كبرى، أذكر مثلًا على سبيل التذكر أنني قرأت الياس خوري على شاطئ عين المريسة، وأحمد بيضون على طاولات المودكا وجلسات النقاش، وأنسي الحاج في الحانات. غير أن هذه المكتبة الكبيرة ومن خلال إتاحتها للكتب والقراءة، كانت تصارع لتعيد إنتاج دورها بعد الحرب في هشاشة من نوع آخر، أو لنقل في وهم مأمول مغر جدًا، فيه رهان طفوي: بيروت كانت، انكسرت، قاومت، ويمكنها أن تعود، نحن سنقرأ ونتحدث ونرقص ونغني وهي ستعود. كانت الكتب وقراؤها ينحصرون في بضعة شوارع فقط من بيروت، وكانت الصحاري تكبر بينها وبين المناطق الأخرى، وكان هذا مدار سؤال مقلق لي، برغم الزخم الثقافي آنذاك من ملحق النهار، المعارض الفنية، المشهد الموسيقي والمسرحي والمنابر الأخرى. قراءة الكتب في تلك الفترة كانت بالنسبة لي قراءة طرح الأسئلة، من الصورة وسلطتها على العين، إلى الجسد القلق، والوقت المسرع، والتكنولوجيا الجديدة. كنت أقرأ لأسأل كيف لهذه الأمكنة المنعزلة المتشكلة من رهان يعول على أسطورة المدينة قدرة الواحة المغرية تلك، أن تتحيز أكثر وتصمد في وجه مشروع حزب الله وسطوة النظام السوري ومشروع الحريري الحالم اعتباطا بلا مقومات. ثم حرب الخليج والتحولات الكبرى من 11 أيلول إلى غزو أفغانستان والعراق إلى موت أبو عمار واغتيال الحريري وحرب تموز 2006. كان جوهر السؤال يطرح تساؤلات من قبيل: من نحن، كيف نعيش، وكيف نكون وإلى أين نذهب؟ بعد انتقالي إلى لندن أصبحت الكتب حاجتي الملحة في سبل البحث عن الأصل الذاوي، الانسلاخ الكلي، ومعالجة الصدمة الثقافية. غير أن عودتي للدراسة الجامعية إلى جانب العمل فتحت أفقًا للتحول في ما أقرأ وكيف أقرأ. وهذا هو التحول الثالث على ما يحلو لي تعريفه.
- ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟
هذا سؤال صعب، لا اذكر أني قرات كتابًا لم أتأثر به، ولربما قد أجيب عليه بطريقة مغايرة في وقت آخر. لكني على سبيل المثال، أحببت عمل هنري لوفيڤر عن صناعة الأمكنة في سياق تاريخي وسياسي، وأعمال بول فيريليو، ونظرته للمدن والأجساد على أنها مدن وأجساد حرب. كما افتنت بكتاب غاستون باشلار "جماليات المكان"، كان مرجعًا جيدًا وما زال لمحاولة مواءمة العزلات وحب الأماكن، موريس بلانشو أيضًا محطة دائمة، أقارن بعض أعماله مع صامويل بيكيت، يتقاطعان بشكل سحري في الانتظار والنسيان. وفي سياق آخر أحببت نقاش برونو لاتور وغراهام هارمن في "الأمير والذئب"، تعريف حقول الاختفاء من سلطة الإدراك، ودرجات تجلي استقلالية الأشياء التامة في نسيج الوقت والمكان والتجارب. وفي هذا أجد نفسي راغبا في أن أُسقط هذه الاستقلالية غير المرئية لوجود الأشياء على أعمال جوديث باتلر وتقديمها للفعل الجنساني على الهوية الجندرية المتوارثة اجتماعيًا وسياسيًا اقتصاديًا، فاردة مساحات كانت غير متخيلة سابقًا لمسارات الرغبة وتشكل الذات قبل الهوية. مجموعة بسام حجار حاضرة دائمًا في البال وعلى الرفوف كبرزخ. بعض كتب بلال خبيز التي تمكنت من الحصول عليها مثل "الصورة الباقية والعالم الزائل" أسترق النظر إليها أحيانًا، فهي دفعتني لقراءة ريجيس دوبريه ورولان بارت. أعود بين الفينة والأخرى لشيموس هيني وبريخت، أقرأهما سويًا أحيانًا، مع فوارق السياق والأماكن والأسلوب، إلا أني أحب لمس ازدواجيات متل الذنب والأمل والإصرار على النهوض من المحن رغم الفواجع. كما أعود دائما لإليوت وأودن، وإزرا باوند، أرى فيهم تأسيسَ تعريفٍ جديد للوقت ومستويات النظر والسمع الشعرية والمساحات الأنطولوجية. وللمفارقة غالبًا ما أعود لأعمال جون شياردي، تأخذني عفويته، سطحية نصه، والبنية الموسيقية لشعره، يمتعني جدا عندما أقرأ كتبه للصغار مع ابنتي. ولأعمال عادل نصار مكانة خاصة أيضًا، شفاف غير مساوم بنفس دولوزي-أوديبي ذهاني فريد، يعيدني إلى نقطة مفصلية دائم، حيث أن نصه يمنع التمثيل وتاليًا يلغي إمكانية التفاوض والمقايضات. في الرواية والقص، أحب أعمال رشيد الضعيف المسلية وحسن داوود وبطء أماكنه وخفة شخصياته وانعزال جو الرواية عن الزمن العام. أعمال أومبرتو ايكو جميعها دون استثناء لها مكانة خاصة، من خلاله أرى أوروبا القديمة والحديثة. تصوير فيرجينيا وولف أيضًا دائمًا يعود إليّ عندما أزور أحياء لندن القديمة كـ"فارينغدون" و"كليركنويل".
- من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟
أتردد كثيرًا في الإجابة عن هذا السؤال، لأن التفضيل بالنسبة لي عمل مزاجي، والآن وحيث أني صرت مرغمًا على الاختصار، سأغامر لأقول إن ساراماغو هو أكثر الروائيين تأثيرًا في. قرأت رواياته جميعها، تقريبًا بشكل متتال وفي فترة زمنية قصيرة. شخصياته تعيش قربي، أعرفها، أرى وجوهها، أستطيع أن أسمع الأصوات في المشاهد، أميز الروائح. ساراماغو روائي يصنع الأمل ويعرف كيف يستخدم السأم، الكسل والموت كأثاث في الأمكنة الحية، روايته "كل الأسماء" هي الأكثر طوفانًا في رأسي.
- هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟
أحيانًا أدون ملاحظات وأسئلة على الهاتف، وأحيانًا أخرى أترك الملاحظات على صفحات الكتب. وفي أحيان كثيرة لا أفعل شيئًا، بل أكتب ما يأتي لاحقًا.
- هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟
ما زلت اشتري الكتب واقتنيها بورقها. أشتري أكثر مما أقرأ. لدي الكثير من الغابات لأزورها وهذا يمتعني. لم أتأقلم كثيرًا مع قراءة الكتب إلكترونيًا، ولكنني أحفظ الكثير من المواد الإلكترونية والملفات الصوتية. يمكنني القول إنني أملك مكتبة الكترونية وصوتية.
- حدّثنا عن مكتبتك؟
علاقتي مع مكتبتي هي علاقة اطراد وإحالات وكثير من الزيارات والابتعاد والشوق. وعملي في تكنولوجيا المعلومات وتخصصي الأكاديمي في أنساق التكنولوجيا الجديدة، أتاحا لي الاستدارة إلى أبعاد مكتبية جديدة. في لندن بدأت الالتفات إلى الفلسفة التحليلية وعلاقتها الجدلية مع تاريخ وفلسفة العلوم والثورة الصناعية ولاحقًا المالية وتكنولوجيا المعلومات ثم علاقتهما بالأسواق واقتصاد المستخدِم. تعرفت على كتب المستقبليين كفيليبو مورينتي، شومبتر وماكلوهن، ومن ثم فيبلين وابراهام مولز، ومفكرين محافظين من هوبز وبورك إلى آين راند وكاينز وحايك وروجر سكروتن. وفي تاريخ العلوم بدأت التعرف على الأثر الكبير للايبنتز في فلسفة البرمجيات ومن ثم على برونو لاتور ورفيقه ميشال كالون ونظريتهما "شبكة المؤثرين" وعلى غراهام هارمن وأعماله في فرد مساحة تفكير جديدة حول أنطولوجية الأشياء وحضورها بشكل مستقل عن إدراك الذات الواعي لها، أي خارج علاقاتنا بها، بديع كان التفكير بمملكة الاشياء المستقلة خارج الوعي. وفي سياق آخر أحببت الشعر البريطاني والأمريكي والتغير في شكل وأنساق الكتابة الشعرية تلك الذي بدأ منذ بداية القرن الماضي. وفي حيز آخر تعرفت على أمجد ناصر، ووجدت في ما كتبه ما لم أجده في درويش. أخذني أمجد في مغادراته كلها، من البادية، إلى القضية، إلى التنقل بين المنافي وفي دفء تحولات أنساقه وغصاته في "سُر من رآك" وذهابه الأخير "وحيدًا كذئب الفرزدق". كما أن لندن عرفتني على مي غصوب وسردها الحيوي، فـ"وداعًا بيروت" و"مزاج المدن" كانا همس باب فتح لمغادرة وابتداء.
- ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟
عادة ما أقرأ بالتوازي، وأحيانًا كثيرة أوقف أشياء وأبدأ بأخرى، أو أعود لغيرها. وأحيانا كثيرة أوقف القراءة لفترة طويلة. حاليًا أقرأ مجموعة كتب لرينيه جيرار عن الرغبة والحسد والانتقام.
اقرأ/ي أيضًا: