ألترا صوت – فريق التحرير
يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.
نور عسلية فنانة وباحثة من سوريا. حاصلة على ماجستير بتخصص فلسفة علم جمال وتاريخ الفن المعاصر من جامعة باريس الثامنة. مقيمة في باريس.
- ما الذي جاء بكِ إلى عالم الكتب؟
أبي وقراءة القرآن. كان أبي يقرأ لساعات طويلة، قراءات منوعة معظمها روايات ومجلات تخصصية ثقافية أو علمية متخصصة بعلم الأحياء. كانت غالبًا إعارات من مكتبة المركز الثقافي في المدينة أو من أصدقائه. وكانت قراءاته بدافع حب المعرفة فقط. في عمر الثالثة كنت قد تعلّمت القراءة بشكل كامل، وهذا ليس نبوغًا إنما ببساطة قد تدرّبت مبكرًا مع أخواتي الأكبر سنًا. وكنت أقرأ في كتب أبي قبل أن أفهمها، كانت وسيلتي لتقليد أبي فقط، حتى أني كنت أضع نظاراته على جبيني عندما أمسك كتابًا. ثم إني أحببتُ أن أقرأ مثله في القرآن، دون أن يشجعني هو أو أمي أو يمنعاني عن ذلك، ولم أكن أعرف بعد ما معنى الدين، لكني بذلك ارتبطت عندي صورة الكتاب بالتقديس ووجوب الحفاظ على سلامته.
أعتبر أنني بدأت القراءة فعليًا منذ أن بدأت باختيار ما أقرأ، وكان ذلك في الرابعة عشرة من العمر. كنت مهتمة للغاية بكتب علم النفس، وكنت أستعيرها بمساعدة أبي من مكتبة المدينة، لكن القراءات كانت متباعدة وغير عميقة. عندما دخلت إلى الجامعة فقدت تقريبًا الرغبة بالقراءة، حتى استرجعتها بفضل دروس الأستاذ الراحل عبد العزيز علون عندما كنت في مرحلة الدراسات العليا. ومنذ ذلك الوقت ارتبطت عندي القراءات بالبحث الأكاديمي. وعندما سافرت من سوريا إلى فرنسا لمتابعة دراستي، لم أحمل معي أي كتاب، ولم تصبح الكتب خبزًا يوميًا لي إلّا ابتداء من عام 2014، منذ تسجيلي في مدرسة الدكتوراه، حيث لم يعد يمنعني عن ساعات القراءة اليومية إلا اشتداد نوبات الصداع إلى درجة تستحيل معها الرؤية. والنقطة الفارقة هنا أن معظم قراءاتي صارت باللغة الفرنسية، وهذا ما جعل القراءة في بعض الأحيان أبطأ عندما يكون الأسلوب معقدًا، أو يكون الموضوع خارج اختصاصي في الفن، فيلزم حينها لفهمه الرجوع إلى القواميس والتحقق من معاني بعض الكلمات. مثلًا واجهتُ هذه الصعوبة لدى قراءتي لرولان بارت وتراجم مارتن هايدغر، في حين قرأت مارسيل بروست وهنري برغسون بسلاسة.
- ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتكِ؟
هل بالإمكان اعتبار شريط مسجّل بمدة أربعمائة وخمسين دقيقة كتابًا؟ لنقل إنه كتاب مصوّر يرويه مؤلفه جيل دلوز. هو فيلم "أبجدية جيل دلوز"، قامت بإعداده طالبته السابقة كلير بارنيه عام 1996. حيث سجّلت معه حوارًا فلسفيًا، مشروطًا من قبله بأن تأتي الأسئلة على شكل كلمات مرتبة حسب الترتيب الأبجدي، كلمات ترى فيها بارنيه مفاتيح فلسفة دلوز. ثم إنه اشترط ألّا يتم بث هذه اللقاءات إلا بعد وفاته، والتي وقعت عام 1998 عندما قرّر الانتحار قفزًا من نافذة شقته في باريس بعد أن أصبح مرضه الرئوي لا يطاق. وفي هذا الشريط خلاصة فلسفة دولوز وكل ما يعبر عن شخصيته ومفاهيمه وقلقه واضطراباته وتوازنه.
ثم هناك أربعة كتب أثرت بي جدًا: "لقاء مع مارسيل دوشامب" أجراه الكاتب بيير كابان في عام 1966، وللمصادفة أن هذا اللقاء أيضًا قد تم قبل عامين فقط من وفاة الفنان، ويمثل أيضًا خلاصة فكره الفني. يمثل هذا الكتاب بالنسبة لي الانتقال إلى فهم معمّق للفن المعاصر بصورة عامة ولفن مارسيل دوشامب بصورة خاصة. يُعتبر مارسيل دوشامب أحد أشد رجال القرن العشرين ذكاءً، فقد غيّر وجه الفن المعاصر بلا رجعة، كما يُحسب له تأثيره الكبير على الأدب لمهارته اللغوية العالية ونحته مصطلحات جديدة منها ما يعبّر عن فلسفته الفنية.
وثلاث روايات أثّرت بي جدًا: "العطر" للكاتب الألماني باتريك زوسكيند، "شقيق النوم" للكاتب النمساوي روبرت شنايدر (كلاهما بترجمة رائعة لنبيل الحفار) و"حكاية عين" للفرنسي جورج باتاي. لأن العطر وشقيق النوم تتقاطعان مع مكوني الذاتي ونزعاتي الوجدانية، في العطر على نحو أكبر، حيث إني كما الشخصية الأساسية في الرواية لدي حاسة شم شديدة الحساسية (غالبًا ما تُسبب لي نوبات الصداع). وأما عن حكاية عين لجورج باتاي، فهي رواية استثنائية توخيّت قراءتها بلغتها الأصلية، وهي فارقة بالنسبة لي لأنها أولًا مرتبطة بالعمق النفسي للكائن البشري، وأنها قد أثّرت على نحو واسع في الفن المعاصر، ولأنني اختبرت فيها قدرتي على أخذ مسافة من أفعال ومشاهد مقززة، فهي رواية تجمّل الجريمة لصالح الرغبة الجنسية، قد صدرت باسم مستعار وظل اسم كاتبها الحقيقي مجهولًا لعدة عقود.
- من هو كاتبكِ المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟
باتريك زوسكيند. عدا عن إعجابي الشديد برواياته (قرأت منها العطر، حكاية السيد زومر، عن الحب والموت) فإني شديدة الإعجاب بكونه مقلًا بالمقارنة مع غيره من الروائيين: إنها غواية الندرة!
- هل تكتبين ملاحظات أو ملخصات لما تقرئينه عادة؟
دومًا أكتب ملاحظات وأحتفظ بمقاطع معينة من المواد التي أقرؤها. فمعظم المواد متعلقة بدراستي أو بعملي، والروايات غالبًا ما تكون مقترحات من أصدقاء أو أعمال لأصدقاء، فأحبّ أن أعود إليهم بما تركه الكتاب من أثر سلبي أو إيجابي. لكن لا شك أن ذهني متمسك بالمنهج الأكاديمي، وهذا قد يكون سلبيًا في بعض الأحيان، فأحيانًا قد أبالغ في تفنيد الملاحظات مما يفسد متعة القراءة. لكن هناك استثناءات بالطبع.
- هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟
لا أبدًا. لا يوجد أي فرق عندي بين الورقي والإلكتروني، قد استبدلت حميمية الورق بتعلقي بجهاز الكمبيوتر الخاص بي، أدمنه وأحمله معي أينما ذهبت تقريبًا. لكنني أحيانًا أشتري الكتب بعد قراءتها بنسخة رقمية، فعلت ذلك مثلًا بعد قراءتي لروايتين للروائي السوري ممدوح عزام. أعتبر شراء الكتاب الورقي نوع من التحية إلى الكاتب.
- حدّثينا عن مكتبتك؟
هناك مكتبتان. الورقية، القسم الأكبر منها يحتوي على كتب ومجلّات مرتبطة باختصاصي الأكاديمي: كتب في فلسفة علم الجمال. بعضها من إصدارات النصف الأول من القرن العشرين، والبعض الآخر معاصر لكنه متخصص في الفترة الزمنية ذاتها. وهناك كتب كل منها متخصص في فنان مثل مارسيل دوشامب وبابلو بيكاسو ومان راي وهانس بيلمر.. وعدد أقل من الكتب والروايات بالعربية، معظمها أُهدي إليّ، مثلًا عدد من روايات وتراجم للكاتب محمد برادة حظيت بها هديةً منه، والعديد من ترجمات وكتب الشاعر جولان حاجي، وأعتزّ بأنه يخصّني على الدوام بنسخة من كلّ جديد، وكذلك مجموعة من الكتب قدّمتها لي بسخاء الناشرة سوسن بشير. وهم أصدقاء أعزاء جدًا واستثنائيون، لذا فإن هذا القسم من مكتبتي أحمله في قلبي أيضًا.
وفي مكتبتي أيضًا ما ألتجئ إليه على الدوام: قواميس اللغة الفرنسية أحادية اللغة. وأما مكتبتي الرقمية فتحتوي على كم أكبر بطبيعة الحال. وفيها المجموعات الضخمة التي لم أتمكن من قراءتها كاملةً لكني أحتاج مرارًا الرجوع إلى فصول منها، مثل المراجع المتعلقة بفلسفة علم الجمال لهيغل وكانط وروايات ضخمة مثل البحث عن الزمن الضائع لمارسيل بروست ومجموعات شعرية لشارل بودلير ولويس آراغون.
- ما الكتاب الذي تقرئينه في الوقت الحالي؟
"حكايا الأرشيف" (fables d'archives) للباحث الأكاديمي عبد المجيد أعرف.
اقرأ/ي أيضًا: