في بدايات القرن العشرين، يقف شخص فوق رأسه كوفيّة، في يده عصًا ومن حوله خرفان في حقل تتكاثف فيه الأشجار والصّخور. يبدو بذلك المنظر كأنه خارج من حكاية شعبيّة من حكايا البلاد القديمة، ومن ثمّ يتوضح أن قبالة "الراعي" كاميرا كبيرة يقف وراء عدستها مصوّر محترف، وأن حقل الخراف والصّخور والأشجار والسماء الزرقاء، ليس إلّا لوحة كبيرة مرسومة بإتقان. أمّا الرّاعي، فيهودي أوروبي اسمه "تسفي" قام بعد التقاط الصورة بخلع الكوفيّة وألفى العصاة، ثم بدَّل ملابس الفلّاح بتلك الّتي أتى بها، ليخرج من الاستوديو ويعود أدراجه نحو مسكنه في تل أبيب. ضمن هذا الإطار، وكي نفهم ما الّذي دفعه لالتقاط صورة بهذا المظهر، يلزم التقصي في تاريخ الزيّ الّذي يمثل اليوم دلالة الشخص الفلسطيني.
استوديو المصوّر إبراهام سوسكين في تل أبيب، من استوديوهات التصوير اليهوديّة الأولى في البلاد. كانت إحدى الخدمات الّتي يعرضها الاستوديو صورة "شرقيّة" لمن يرغب بلباس فلّاحي أو بدوي كامل
تعتبر الكوفيّة التّقليديّة رمزًا شعبيًّا وسياسيًّا وطبقيًّا، لا سيّما الكوفيّة البيضاء والسّوداء الّتي غدت نموذجًا وطنيّا فلسطينيّا بارزًا. إلا أن نظرة واحدةً إلى الخلف سوف تُرينا واقعًا مختلفًا. منذ بداية القرن العشرين وحتّى سنوات الخمسينيّات تم توثيق صور لكبار قادة الحركة الصّهيونيّة إلى جانب العديد من اليهود وهم يرتدون الكوفيّة، يتصوّرون بها ويجولون الشوارع. ولعل أحد الأمثلة الأشهر هي صورة حاييم وايزمن أثناء لقائه بالأمير فيصل الهاشمي عام 1918، وكان يرتدي كوفيّة فاخرة على رأسه. كما ارتدى الكوفيّة أشخاص من البلماخ، وحتّى جنود من الجيش الإسرائيلي، وفي العقود الأولى من القرن العشرين، قام المهاجرون اليهود باتّخاذ صورًا تذكاريّة وهم يلبسون الرّداء العربيّ الكامل ومن ضمنه الكوفيّة، كذلك تجوّل بها طلاب المدارس اليهود بعد الاحتلال الإسرائيلي.
تحول الكوفيّة إلى رمز معاد للصهيونيّة
تأسّست الحركة الصّهيونيّة كحركة أوروبيّة، وقد تأثّرت بالفعل بالمناخ الفكري الأوروبي في ذلك الوقت بما فيه الاستشراق. وبعد اختيار "فلسطين" المكان الّذي سيقيم فيه اليهود دولتهم، بدأت الهجرات الأولى، وقد وجد المهاجرون الأوائل اختلافًا كبيرًا بينهم وبين ساكني البلاد، فقلّدوا يهود "البقيعة" كونهم عائلات يهوديّة معروفة في البلاد وتعيش أسلوب حياة فلسطينيّة. ومن هذا المنطلق حاول المهاجرون الأوائل الاقتداء بسكّان البلاد، فتشير الثّقافة المادّيّة لهؤلاء المهاجرين على محاولة لخلق شخصيّة “اليهودي الجديد” في البلاد.
ومن الأمثلة الأخرى على هذا الأمر، هو استوديو المصوّر إبراهام سوسكين في تل أبيب، من استوديوهات التصوير اليهوديّة الأولى في البلاد. كانت إحدى الخدمات الّتي يعرضها الاستوديو، صورة "شرقيّة" لمن يرغب بلباس فلّاحي أو بدوي كامل. توضح لنا أعمال "سوسكين" الجوّ العام الّذي رافق الحركة الصّهيونيّة في بداية القرن العشرين: تحوّل يهود الشّتات إلى شخصيّة "اليهوديّ الجديد"، واقتباس هويّة قوميّة قديمة رأوا أنّها حتمًا تفيد في مزج هويّة دخيلة. تظهر هذه الصّور كيف نظر اليهود الأوروبيين إلى الثقافة المحلّية حينها وكيف حاولوا تقليدها. رافق هذا الأمر الهجرات الّلاحقة أيضًا، ولا سيما أصحاب الهجرة الثّالثة الّذين حاولوا تقليد أهالي البلاد بمفاهيم عديدة، مثال ذلك، هو تبنّي منظّمة "هشومير" الّتي يتكوّن معظمها من يهود أشكناز لمظاهر فلسطينية متأصلة كالكوفيّة والعباءة بغرض الظّهور مثل سكّان البلاد.
كان الطّموح حينها تصميم هويّة جديدة للمحتل، لكنّها عتيقة في الوقت ذاته، تعود للثّقافة الفلسطينية التّاريخيّة. ويمكننا رؤية هذا التّصوّر "اليهوديّ الجديد" كذلك في الأعمال الفنّية الّتي قام بها المهاجرون الأوائل من الفنّانين الّذين درسوا في "بتسيلئيل" والجميع من أبناء المستوطنات الأولى، إلى جانب الحركات والمنظّمات كـ "الهاجانا" والـ"بلماخ"، "إيتسل" و"ليحي"، كلّهم أرادوا تعزيز فكرة "اليهوديّ الجديد" الّذي تميّز بثلاثة أشياء: أولّا أنّه استولى على أرض فلسطين، وثانيًا عمل بالزّراعة والحقل، وثالثًا قام بارتداء الكوفيّة.
للكوفيّة الّتي تواجدت في الثّقافة العربيّة من قبل ظهور الإسلام وظائف عديدة، فقد حمت الرأس والوجه من الرّمال والغبار، وظلّلت الفلّاح من الشّمس في الصّيف ووقته من الرّياح في الشّتاء. وللكوفيّة ثلاثة أنواع تقليديّة معروفة: الكوفيّة البيضاء الّتي تنتشر بالأساس في بلاد الخليج العربي وعند البدو أينما تواجدوا، كما نجدها أيضًا في العراق، والكوفيّة الحمراء والبيضاء الّتي تنتشر بالأساس في الأردن لكنّنا نجدها في أماكن أخرى كذلك، وأخيرًا الكوفيّة البيضاء والسّوداء التّي يشتهر بها الفلسطينيّون.
"كلّما تطوّر المشروع الصّهيونيّ أمام الصّراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، قلّ اهتمام اليهود الصّهيونيّين بتقليد المحلّيين". في كتابه "الاستشراق قبل-اسرائيل" الّذي يدور حول تصوير اليهود باللباس الفلّاحي والبدوي في البلاد، يشير الباحث "دافيد جاس" إلى أحداث عام 1929 العنيفة كنقطة مفصليّة في تحوّل توجّه اليهود وعدولهم عن اهتمامهم بتقليد السكان الفلسطينيين، حيث تلاشت النظرة الاستشراقيّة الّتي هيمنت على أبناء الهجرات الأولى، وتلاشت معها رغبتهم "بالتّمشرق" كأبناء المكان. وفي أواخر الثّلاثينيّات اندلعت الثّورة العربيّة الكبرى في فلسطين العثمانية، وخلالها تبلورت الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، وتحوّلت الكوفيّة إلى رمزٍ وطنيّ-شعبي-فلسطيني وحلّت مكان الطربوش العثماني. باتت رؤية الكوفيّة كرمز سياسي راسخة في الوعي المحلّي، وفي نهاية المطاف، أصبحت الكوفيّة تمثّل أيديولوجيّة معاكسة للصّهيونيّة.
الكوفيّة تلتقط معاني سياسيّة
بعد أحداث عام 1929 ومن ثمّ ثورة 1936، بدأ التّراجع عن ارتداء الكوفيّة بين اليهود وعن تقليد المحلّيين عمومًا، إلّا أنه في سنوات الأربعينيّات والخمسينيات كان لا يزال هناك ظهور للكوفيّة على بعضهم، ومنهم سياسيّين وشخصيّات عسكريّة. ومن الأمثلة الشّهيرة، صورة دافيد بن غوريون أثناء جولة ميدانيّة خلال حرب 1948، يرتدي الكوفيّة البيضاء حول رقبته وإلى جانبه إسحاق رابين وإيغال ألون حين كانوا لا يزالون قادة صغارًا.
بعد أحداث عام 1929 ومن ثمّ ثورة 1936، بدأ التّراجع عن ارتداء الكوفيّة بين اليهود وعن تقليد المحلّيين عمومًا، إلّا أنه في سنوات الأربعينيّات والخمسينيات كان لا يزال هناك ظهور للكوفيّة على بعضهم
مثال آخر من نفس الحرب، صورة معروفة بعنوان "الفتاة ذات المسدّس" تظهر في الصّورة ضابطة الاتصالات زيفا أربل تتكئ على شجرة، تحمل سلاحًا وتلفّ كوفيّة على رأسها، بعد إتمام احتلال "برفيلية" بوقت قليل.
تظهر هاتين الصّورتين أن مكانة الكوفيّة كانت لا تزال حاضرة في الوعي الصّهيونيّ الاحتلالي حتّى نهاية الأربعينيّات رغم تحوّلها إلى رمز سياسي فلسطيني قبل أكثر من عقد. في أرشيف بوريس كارمي (المصوّر العسكري الأوّل)، تمّ توثيق جنود في الجيش الإسرائيلي يلفّون الكوفيّة في مسيرة عسكريّة عام 1958.
فقط على مشارف سنوات السّتينيّات، بدأ التحوّل الواعي الّذي أنهى الاهتمام اليهودي بالكوفيّة بشكل كامل، وخلف هذا التحوّل كان رجلٌ واحد بالأساس اسمه ياسر عرفات. لقد صعدت حركة فتح بقيادة ياسر عرفات بعد الهزيمة الكبرى الّتي نالت الدّول العربيّة عام 1967، وأظهر عرفات نفسه كممثّل عن الفلسطينيّين ومتحدّث باسمهم، وممّا ميّز طلّة عرفات، إلى جانب البزّة العسكريّة الّتي ارتداها بشكلٍ دائم إلى جانب السّلاح، كانت كوفيّته البيضاء والسّوداء. حيث بدأ بارتدائها حتى وفاته.
منذ عام 1956 حين كان أحد طلّاب البعثة المصريّة إلى أوروبا، ومنذ ذلك الحين لم يخلعها في أية مناسبة، وأصبحت الكوفيّة إحدى مميّزات قائد الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة الأوّل، والّذي لُقّب بـ"أبو الحطّة".
في سيرة حياة عرفات الّتي كتبها داني روبينشتين نرى كيف قام عرفات بالاهتمام بكوفيّته بشكل خاص، وكيف قام بلفّها بطريقة محدّدة بحيث يظهر طرفها المنسدل فوق كتفه وكأنّه خارطة البلاد، هكذا أدّى ظهور عرفات إلى تعزيز مكانة الكوفيّة السّياسيّة، وفي الانتفاضة الأولى، قام فلسطينّيون بارتداء الكوفيّة اثناء اشتباكهم مع قوّات الاحتلال الإسرائيليّ.
بحلول اتفاقيّات أوسلو في سنوات التّسعينيّات، ثبت اعتبار الكوفيّة رمزًا "معادي للصّهيونيّة"، وفي ذلك الوقت، انتشرت صورة لرئيس الحكومة إسحاق رابين وتمّ إضافة رسم للكوفيّة حول رأسه، في إشارة إلى "خيانته". منذ ذلك الحين وإلى اليوم، تنتشر رسوم كاريكاتير بين الحين والآخر تستخدم الكوفيّة في تشبيهات مثيلة.
الكوفيّة في القرن الـ 21
مع بداية القرن الـ 21، كان الوعي الجمعي للاحتلال الإسرائيلي في البلاد مختلفًا عمّا قبل فيما يخصّ الكوفيّة. انتهى القرن العشرين بتقطّب واضح، وقد لعبت الكوفيّة أيضًا دورًا في عدّة محاولات لبدء عمليّة السّلام عبر السّنين، فبالإضافة إلى اتّفاقيّات أوسلو، وتلك الصّورة الشّهيرة التّي جمعت عرفات بكوفيّته مع رابين، برزت حادثة في مؤتمر مدريد عام 1991، حين قام الممثّل الفلسطيني صائب عريقات بلفّ الكوفيّة حول رقبته ممّا أثار غضب الحضور من البعثة الإسرائيليّة.
يتوضح هنا كيف تحول الشعور الإسرائيلي تجاه الكوفيّة بشكل جذري خلال أقل من 50 عام، فإذا قام بن غوريون بارتدائها بإرادته عام 48، ففي سنوات التّسعينيّات أصبحت الكوفيّة رمزًا مهدّدًا ومرفوضًا بالنّسبة للمحتل الإسرائيلي. بالمقابل، استمرّ الفلسطينيّون بالتأكيد على رمزيّة الكوفيّة كأحد مظاهر الهويّة الفلسطينيّة، أيضًا من خلال وسائل فنّية كالموسيقى وبرامج التّلفاز والانترنت ومواقع التّواصل الاجتماعي. حيث قام المغني الفلسطيني محمّد عسّاف على سبيل المثال بأداء أغنية "علّي الكوفيّة" أثناء مشاركته في برنامج "عرب أيدل" عام 2012، الأغنية الّتي تحتفي بالكوفيّة كرمز وطني فلسطيني. بنظرة إلى الخلف، نرى أن الكوفيّة وتحوّلات رمزيّتها ارتبطت بمراحل تاريخيّة وبصراعات حول مصير البلاد الفلسطينيّة ارتباطًا لا يمكن فصله مع الأيام.