نقطة سوداء في تاريخ "الجزائري"، إنها كلمة "الحركي"، التي تطلق على الجزائريين المجندين في صفوف الجيش الفرنسي، إبان الاستعمار الفرنسي للجزائر (1830- 1962)، والذين يحاربون ضد أبناء وطنهم الأصلي. هذه الكلمة إن بقيت لصيقة بشخص في الجزائر أو أحد أفراد عائلته أو أحد أقاربه، فهي تقضي عليه، وتحكم عليه العيش طوال حياته على الهامش ويتعرض بسببها للإقصاء من المجتمع.
تطلق كلمة "الحركي" على الجزائريين المجندين في صفوف الجيش الفرنسي، إبان الاستعمار الفرنسي للجزائر، وهو عار يرافقهم لليوم
يقول عبد المجيد بن عائشة، أحد مجاهدي ثورة التحرير(1954 – 1962) في جبال الأوراس بالشرق الجزائري: "مهما حاولت أن تجد لهم الأعذار، فهذا غير ممكن، إنهم العار بالنسبة للآلاف ممن ورثوا عنوان الخيانة".
اقرأ/ي أيضًا: مجزرة السين.. أرواح برسم النسيان
أن يقال عن شخص ما إنه "حركي" أو "خائن" أو "عميل" أو إنه "ابن حركي" أو "ابن الخائن"، هي مسميات عديدة، صارت ألقابًا معروفة، وترتبط بوجوه تتصيدها لغة الازدراء، ممن بقوا في الجزائر بعد الاستقلال، في سنة 1962، وحتى ممن اختاروا الهروب إلى فرنسا خوفًا من القتل أو من غير ذلك.
عنهم يقول المجاهد بن عائشة (87 سنة) لـ"ألترا صوت": "بقي ملفهم مطويًا ومسكوتًا عنه وعاد إلى الضوء خلال السنوات الأخيرة. إنهم اليد الثانية للجيش الفرنسي إبان فترة الاحتلال. كنت أعرف العديد منهم، بل أعرف عائلات أقاربهم لحد اللحظة، لكن من يحاكم من؟ ومن ينصف من؟ ومن يعترف بالحقيقة المرة؟ ومن يقدر على قولها أصلاً، وهي تتعلق بتلك الفترة المريرة في تاريخ الجزائر؟".
يضيف بن عائشة: "كلما احتفلت الجزائر بأول رصاصة انطلقت لتحرير البلاد، تخرج أصوات هنا وهناك تتحدث عن طلب الاعتذار من فرنسا والتعويض للجزائريين عن ما اقترفته الآلة الاستعمارية ويتناسون ملف "الحركي"، لأنهم لهذه اللحظة يحكمون البلد".
ظل ملف "الحركي" لسنوات يطرح تساؤلات عديدة، عند إثارة ملف من ملفات تاريخ الجزائر خلال فترة الاستعمار الفرنسي، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالعلاقات الجزائرية الفرنسية، لما يثيره الموضوع من جدل وتبادل للتهم وذكر للعديد من الجهات والأسماء، حيث يؤكد الأستاذ في التاريخ الجزائري السعيد معزوزي أن "الملف سيبقى على ما هو عليه ما دمنا نعيش الخوف"، مضيفًا: "هناك العديد من العناصر الأساسية في تاريخ الجزائر، وجب إزاحة اللبس عنها وحلها مهما كانت الحقائق قاسية".
ويعتقد معزوزي في تصريح لـ"الترا صوت" أن "الحركي ينقسمون إلى فئتين مختلفتين"، على حد تعبيره. الأولى، هم أولئك الذين اختاروا طواعية التعاون مع الجيش الفرنسي ضد الثوار الجزائريين وعناصر جيش جبهة التحرير الوطني، وانحازوا إلى "بيع" الوطن بأثمان بخسة وضمان حماية وعيش في مصاف الطبقة الميسورة الحال مقارنة بالشعب الجزائري، الذي نحره العوز والفقر في تلك الفترة من تاريخ الجزائر. أما الفئة الثانية، فهم أولئك الذين انخرطوا في الجيش الفرنسي عنوة من أجل تقفي أثر المجاهدين أو الثوار الجزائريين في الجبال وفي القرى وكانوا ينفذون أوامر الجيش الفرنسي، بهدف ما أسماه "إخضاع الشعب الجزائري".
ملف "الحركي" في الجزائر من المسكوت عنه نظرًا لتعقيده وحصول بعض هذه الشخصيات على مناصب عالية في الدولة
اقرأ/ي أيضًا: تجارب فرنسا النووية.. جرح الجزائر الغائر
وشدد معزوزي على أن كلمة "الحركي"، مشتقة من كلمة "حركية"، لأن وظيفتهم القضاء على أي تمرد أو ثورة داخل أي قرية في الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، مضيفًا أن الملف إلى حد اليوم يعتبر من أبرز الملفات المسكوت عنها في التاريخ الجزائري.
أما الناشط السياسي عبد الوكيل بلام، فيرى أن "ملف "الحركي" يكشف استغلال فرنسا لجزء من الجزائريين ضد وطنهم، في خدمة فرنسا ثم تهريبهم". كما شدد بلام في تصريح لـ"ألترا صوت" على أن "الملف معقد بحكم ارتباطه بملفات سياسية متعددة، تتصل ببعض الشخصيات التي تبوأت أو تتبوأ الآن مناصب في مستويات عالية عديدة في الجزائر"، لافتًا إلى أن "هذا الجانب يفسر عدم رغبة السلطات الجزائرية فتح هذا الملف"، لكن بلام يدعو إلى ضرورة مواجهة الأمر للتصالح مع الذاكرة الوطنية نهائيًا".
المفارقة في العلاقات الجزائرية الفرنسية، التي بدأت تعرف انفراجًا خلال السنوات الأخيرة، هو قانون 23 شباط/فبراير 2005 الممجد للاستعمار الفرنسي، حيث تعتبر السلطة الفرنسية الحالية هؤلاء "الحركي" قد قدموا خدمات جليلة لفرنسا الاستعمارية وخدموا جيشها ويجب تعويضهم عن تلك الخدمات إلى حد المطالبة بتدريس هذا الفعل "الإيجابي" في المدارس الفرنسية، بينما يظلون في عيون الجزائريين سلطة وشعبًا "عملاء".
على الأرض هناك تضارب في الأرقام حول العدد الحقيقي لـ"الحركي" سواء المتواجدين في فرنسا أو الذين فضلوا البقاء في الجزائر، وهناك من يتحدث عن وجود أزيد من 60 ألف حركي، بينما هناك من يقول إن عددهم يتجاوز نصف المليون، لكن سياسيًا يحافظ هذا الملف على سريته والصمت حوله إلى الآن.
اقرأ/ي أيضًا: