دوافع العمل الأدبي
في المقال الصحفي الذي نشره جورج أورويل سنة 1946 في Gangerl ردًا على سؤال "لماذا أكتب؟"، يسرد لنا صاحب رواية 1984 حكايته المتأرجحة مع الكتابة، من ثقته الطفولية العمياء في أن يصبح كاتبًا حين يكبر، إلى التصدع الذي أصابها مع دخوله السابعة عشر، مرورًا بتلاشيها مع قرار تركه الكلية والتحاقه بسلك الشرطة الإمبريالية البريطانية في بورما الهندية، وصولًا إلى لحظة الإشراق المتمثلة بمغادرته السلك الاستعماري ومن ثم إعلان تفرغه الكلي للكتابة.
ترتبط ثيمات العمل أو الموضوعات أو الأفكار التي يلزم الكاتب نفسه بها على نحو ما بدوافع الكتابة
في المقال لا يسرد لنا أورويل حكايته، ليؤكد على الطابع القدري للميل الأدبي الذي ما أن يستحوذ على ذهن صاحبه حتى يرغمه صاغرًا على التورط في عالم الكتابة المدوخ، بل ليمنحنا تصورًا مقتضبًا ولكنه كافٍ عن الخلفية التي طالما حكمت دوافعه النفسية للكتابة الإبداعية. فإن تكتب برأي أورويل يعني أن تكون واقعًا تحت دافع "حبك المطلق للذات"، حيث الرغبة العارمة في أن تبدو ذكيًا، حاضرًا بأفكارك كما إسلوبك على نحو يجعل منك محط أنظار الناس وأحاديثهم على حد سواء أثناء حياتك المهنية أو بعد مماتك. فمن ذاك النخبوي أو المبدع الذي لا يرغب بالسعي لنيل الاعتراف به، وصولًا إلى شغفه بتحقيق الذات؟ يتساءل أورويل. الحماسة الجمالية كدافع قد تبدو لدى بعض الكتاب ترفًا، إلا أنها لا تخلو من طرافة ومعقولية لدى الرجل، الذي طالما وجد نفسه مشدودًا إلى الكلمات، إيقاعها ترتيبها، الأثر البهيج التي يحدثه صوت في آخر، إلى تماسك النثر الجديد وموسيقاه.
اقرأ/ي أيضًا: مكتبة ممدوح عزام
في مقالته "درس في الكتابة"، يحاجج الروائي السوري ممدوح عزام بخلو كتاب الروائي البيروفي يوسا "رسائل إلى روائي شاب" من أية رسائل، شيفرات، وصفات جاهزة للكتابة على الرغم من حديثه الكاشف عن وحدات البناء الروائي، ذلك أن الشيفرة الوحيدة التي يرغب بتمريرها بما يخص درس الكتابة الابداعية الأوحد؛ الحرية. في الرسائل نتعرف على الحرية عند يوسا منزلًا بنوافذ كثيرة، تعكس نوافذه الخارجية حرية الكتاب في ورشته، وهو يعيش محنة الاختيار للقبض على الشكل الفني الذي سيمنحه لمنتجه الفني الذي ما زال يتخلق في أروقة الوعي والمخيلة، فيما تنفرد نوافذه الداخلية بتقديمها على حقيقتها الكاشفة، عملية خلق كبرى بالكلمات والأنفس، بقصد تحريض وعي المتلقي أو مخيلته للخلاص من إكراهات وقيود الواقع الخارجي أو التمرد عليه بقصد تغييره.
الثيمة والدافع الأدبي.. تلازم المسارات
ترتبط ثيمات العمل أو الموضوعات أو الأفكار التي يلزم الكاتب نفسه بها على نحو ما بدوافع الكتابة، فإذا ما قرر الكاتب أن يضع "الدافع السياسي" على رأس أولوياته، بوصفه "رغبة عميقة بتغيير العالم باتجاه ما" كما تصوره أورويل، فسرعان ما سيلمس القارئ ذلك في نسيجه الحكائي. في السياق ذاته، لا يحتاج المرء كثير عناء لفهم دوافع عزام الكتابية، ذلك أن مقالته السابقة تظهر على نحو لا لبس فيه انحيازه لدافع الحرية كما عرضه يوسا في الرسائل، الأمر الذي يقدم لنا الأرضية المناسبة لتتبع أثر ذلك الدافع على مجمل نصوصه الإبداعية.
التيمة الرئيسية في رواية "جهات الجنوب" هي الاغتراب، اغتراب السلطة الوطنية الممثلة بسلطة الانقلابات العسكرية عن الناس، التي بدل أن تعمل على إشراكهم في إدارة شؤون وطنهم الذي قاموا بالمساهمة في تحريره من المستعمر الفرنسي، تعمد إلى استعبادهم أكان ذلك بواسطة قوة الإذلال المخابرات، أو بالقوة العارية لهدير المجنزرات. فالبطل أو الشخصية الرئيسية فيها، يونس، الذي أمضى 26 عامًا من عمره سجينًا في الغوايانا الفرنسية جراء انخراطه في مقاومة الاحتلال الفرنسي لبلده، يعود ليجد نفسه بلا زوجة، المعادل الموضوع لفقدان الوطن، الذي بدل أن تعمل السلطة المحلية لاستقباله كبطل وطني، "وسخر من نفسه حين ظن أن اليوم التالي لوصوله سيكون عرسًا؛ يرشونه بالعطور، وتزغرد النساء له، ويطلق الرجال عيارات نارية في الهواء"، تعمل على إذلاله من خلال اعتقاله بحجة احتفاظه بخزنة المال التي حصل عليها من سلطة الاحتلال الفرنسي. "قتلت الحارس الواقف على باب الثكنة، يقول له المساعد. الصحيح أنك سرقت الخزنة من مكتب المحاسب الفرنسي، وين المصاري؟"، لينتهي به الأمر إلى مجرد متمرد ينتظر صدور قرار الإعدام الميداني بحقه.
أمَّا في "أرض الكلام" فيسعى عزام للإحاطة بأكثر من ثيمة أو فكرة رئيسية، حيث تهيمن فكرة المعرفة كسلطة، كما كقوة تغيير لسلوك الناس وعقائدهم على الإطار العام للعمل، جنبًا إلى جنب مع فكرة الحب المحكوم عليه بالفشل في مجتمع يخضع للتراتب العشائري، كل ذلك في جو من الاستبداد السياسي، تتخلى فيه سلطة الوحدة السورية ـ المصرية آنذاك عن توفير الحد الأدنى من مقومات العيش لأناس تدعي أنها تحكمهم، حيث تتركهم لمصائرهم في مواجهة الجوع، أو الخضوع لإكراهاته في الرحيل إلى بلاد أخرى تحت وقع الجفاف الذي ضرب المنطقة.
التيمة الرئيسية في رواية "جهات الجنوب" هي الاغتراب، اغتراب السلطة الوطنية الممثلة بسلطة الانقلابات العسكرية عن الناس
إذا كانت السلطة الوطنية الاستبدادية تحضر على خلفية الأحداث في كل من "جهات الجنوب" و"أرض الكلام" فإن التيمة في "أرواح صخرات العسل" ليست سوى مرافعة طويلة ضد "لا شرعية السلطة" تحت حكم الأب والابن، التي بدأت الحياة في عهديهما كوصفة للخراب الأكبر "فوجود النبريش وزيتون أبو طرة الدائم في المنارة، وبزوغ رؤوس أخرى تشبهه، كانا كافيين لأن يعلك الناس أعمارهم كما لو كانت ألجمة". الأمر التي تؤكد فكرة النبوءة ذاتها، إذ كيف لشباب في عمر الرابعة عشرة أن يتنبأ بموته المبكر وهو لم يتجاوزعامه الرابعة والعشرين، إن لم يكن الحديث في التيمة يجري عن سلطة غاشمة لا تفعل شيئًا سوى هدر حيوات الناس في سبيل بقائها في السلطة.
اقرأ/ي أيضًا: ممدوح عزّام.. حفنة من الحكايا وحصان
يعاود عزام العمل على موضوع الاغتراب على نحو جلي في "لا تخبر الحصان" حيث تخترق التيمة السابقة جسد النسيج الروائي بأكمله، فالأب سالم النجار، المتغطرس المتسلط كليّ السلطة مغترب عن عائلته الصغيرة وعن محيطه على نحو خاص، ذلك أنه بدلًا من أن يستثمر لغته البشرية بما فيها من عواطف وأفكار في التواصل مع أفرادها، يوظفها في علاقته من الحصان الذي يصر على رفعه إلى منزلة الصديق الأوحد، وهو لا يفعل ذلك بدافع التعاطف مع حيوان أصيل له على صلة ما مع عواطف البشر وأحلامهم، بل بدافع التذكير بصورته السلطوية كفارس حكومي، شرطي، طالما احتفظ بسطوة وسيطرة على حيوات أناس شاءت الأقدار أن تتشكل مصائرهم بين يديه الفظتين. فالعلاقة الوحيدة الحاضرة في سلوكه اليومي تجاه الآخرين هي علاقة الهيمنة التي تولد علاقات التراتبية الهرمية وتنتج أخلاق الطاعة والخضوع، حيث الصغير خاضع لأوامر الكبير ولعناته "مجموعة من الأرواح النجسة"، وحيث القوي يفرض رغباته وسطوته على الصغير. وكما أن العمى الأبيض قابل للعدوى عند ساراماغو، كذلك هو الاغتراب وآلياته عند عزام، ذلك أن اغتراب الأب عن أبنائه وزوجته سرعان ما سيجد طريقه لدى الأبناء، الذين ستحل علاقات العنف والقوى لديهم محل علاقات التعاطف والمحبة. فالاغتراب يستبطن في داخله قوة تدميرية على صاحبه كما على جميع من يدورون في فلكه، تلك هي رسالة عزام لنا عن الحصان وفارسه.
تقدم لنا القراءات السابقة للثيمات في أعمال عزّام أرضية مناسبة، للتعرف على الصورة الذاتية لصاحبها، ذلك أن كل عمل أدبي ما هو إلا صورة ذاتية عن أفكار ومعتقدات منتجه، وهي في مثالنا هذا رغبة عزّام العميقة في الخلاص من الاستبداد السياسي والأبوي كما الخلاص من عبء العادات والتقاليد التي تثقل كاهل الإنسان السوري. في حين قراءة تلك المواضيع وفق المقاربة التي وضعها الناقد والروائي كولن ولسن صاحب "اللامنتمي" في كتابة فن الرواية، تكشف لنا مدى عمق تلك الأفكار بحاجات الإنسان المعاصرة على النحو الذي صاغه ماسلو في هرمه للحاجات الإنسانية.
فما التيمة في "جهات الجنوب" وفق هرم ماسلو للحاجات الإنسانية سوى رغبة يونس العميقة بنيل "الاعتراف بالذات أو تقديرها" من الآخرين، الأمر الذي نستشفه من ولعه المرضي بصيغة التساؤل "ما عرفتني؟" مع كل من يلتقي بهم. وكما أن رغبة الاعتراف بالذات حاضرة لدى يونس الذي يصارع من أجل إشباعها دون أن يوفق في ذلك، فإن نفس تلك الرغبة أو الحاجة حاضرة لدى كريم الزهر في حبه لمحمودة كما للؤلؤة لاحقًا، ذلك أن الحب أو مشاعر الحب ليست سوى رغبة دفينة لدى الإنسان لنيل الاعتراف به كشخص محبوب من قبل الآخرين. أما عنها في كل من "لا تخبر الحصان" و"أرواح صخرات العسل" فهي تكمن في أعماق رغبات الإنسان المعاصر الذي لم يعد يكتفي بنيل الاعتراف ونيل الاحترام من قبل الآخرين، بل يسعي لتحقيق ذاته، تطلعه للاستقلال الفردي كما تنطّحه للقيادة، الأمر الذي نراه في رغبة أبناء سالم النجار للتحرر وتقرير المصير، كما في رغبة عابد للعيش بكرامة بعيدًا عن إكراهات السلطة القاهرة.
الحَبكة.. مصائر الأبطال وخطوط حظوظهم البيانية
عند مطالعته الصفحات الأولى لعمل أدبي ما، غالبا ما ييمم القارئ إداركه صوب معقولية البناء الحكائي، فإن آنس فيه قدرًا من الترابط المنطقي سار في عوالمه إلى النهاية، أما إن وجده خاليًا من أي معقولية تذكر عمد إلى رميه بعيدًا، وحوّل رغبته المتعوية عنه إلى عمل ترفيهي آخر. ذلك أن إدراك العوالم المتخيلة عند البشر مرتبطة إلى حد كبير بالطريقة المنطقية التي يدركون بها وقائع حياتهم اليومية وفقًا لأنواع المنطق الخمسة (الحياة، العاطفي، الجموع، الديني، العقلي) التي أوردها عالم النفس الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه "الآراء والمعتقدات".
يعاود ممدوح عزام العمل على موضوع الاغتراب على نحو جلي في "لا تخبر الحصان" حيث تخترق هذه التيمة جسد النسيج الروائي بأكمله
يفضي الحديث عن معقولية العمل الأدبي إلى الحديث عن حَبكته، أي إلى النسيج الفني المتقن الذي يحكم الأحداث الأساسية التي تقوم بها الشخصيات الرئيسية في خط سيرها الصاعد وفق المخطط التبسيطي، الذي اقترحه أرسطو للحدث الفني؛ بداية، وسط، نهاية، مع إمكانية البدء من النهاية أيضًا. لذا لا عجب أن ينصرف الحديث عن الحَبكة، إلى الحديث عن مصائر شخصياتها الرئيسية في علاقتها مع الهدف النهائي الذي تسعى إليه بين حدي البداية والنهاية، الأمر الذي اتجهت إليه جهود الباحثين في جامعة فيرموت الأمريكية في سعيهم لوضع مخطط تبسيطي، يعكس الأنماط الشائعة التي تحكم حبكات الأعمال الأدبية في علاقتها مع التحولات التي تطرأ على وضعية البطل وفق صيغة؛ التحول من الحظ الجيد إلى السيئ، أو بالعكس، أو التحول من وضعية السقوط إلى وضعية الصعود، أو في التنويع على تتابعها.
اقرأ/ي أيضًا: "أرواح صخرات العسل".. رواية جديدة لممدوح عزام
في حين أخذ الروائي الأمريكي كريت فونيغوت في تنظيراته حول الفن الروائي بعين الاعتبار أن "القصص لها أشكال يمكن رسمها على ورق الرسم البياني"، يمكن لنا أن نرد الحَبكة في رواية "جهات الجنوب" إلى النمط الأول الذي يأخذ بمسار التحول من الحظ الجيد إلى الحظ السيئ، آخذين بعين الاعتبار أن الحدث الأول يبدأ مع لحظة تحرر يونس من لعنة الغوايانا الفرنسية كحالة من حالات الحظ الجيد، الذي سرعان ما سيزول سريعًا ليحل محله نوع من الشعور بالحظ السيئ لحظة عودته إلى البيت، واصطدامه بحقيقة فقدان زوجته خيزران إلى الأبد. فإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الحكاية لا تنته عند هذه اللحظة المفجعة، بل تبدأ منها لتشكل سلسلة طويلة من رحلات الرجل في طول وعرض البلاد، الذي سيبدأها بزيارة لبيت النجومي صاحب أمانات المدينة ورجلها الشهم، مرورًا بصعوده الليلي إلى جبل الريح مع ما رافقه من أهوال كادت أن تنتهي بمقتله على أيدي مجموعة من لصوص الكروم، ومن ثم رحلة صراعه مع الضبع الذي أغار عليه بالقرب من مستنقعات الروم ونجاته منه بمعجزة، وصولًا إلى اضطراره لسماع حقيقة نفسه التي فجعه بها صاحب الدار، الذي استضافة في دير البرمكي، بأنه "ليس أكثر من عجوز هرم مهترئ لا يساوي بصله"، ومن ثم في محطته الأخيرة، مجرد رجل متمرد ينتظر قرار إعدامه الميداني على يد ضابط من ضباط قوات الجنرال الشيشكلي زمن اجتياحه لمدينة السويداء.
إذا كان مخطط الحبكة في رواية جهات الجنوب قد سار وفق ثنائية صعود ـ سقوط، أو حظ جيد ـ حظ سيئ، كتعبير عن حالة العجز التي انتهى إليها يونس مرتين مرة في استعادة زوجته التي قذفت بها الحاجة وضنك العيش في دروب تحصيل العيش، ومرة أخرى في عدم قدرته على إنقاذ حياته التي صارت تحت رحمة الحكام الجدد للبلاد. فإن المخطط الخاص في رواية "أرواح صخرات العسل" لم يخرج عن المسار السابق سوى بتتالي ثنائيات "سقوط ـ صعود" كتعبير عن حالة المقاومة، التي كان يبديها الشاب عابد في سعيه لتحقيق هدفه المتمثل بالعيش بكرامة، بعيدًا عن السلطة الغاشمة لوالده المستبد كما لسلطة ممثل الحكومة برهان العلمي الملقب بالنربيش، التي كانت تسد طريق الحياة عليه وتسلمه إلى الموت.
إن الحديث عن حبكات الأعمال الروائية من خلال مصائر الشخصيات الرئيسية التي اختلقها عزّام لتكون رسوله في حمل الأفكار والتيمات التي رغب بتمريرها لنا، ليست مجرد درس مدرسي أو فني لمعرفة مدى قربها أو بعدها عن أنماط محددة من الحَبكة، بقدر ما هي محاولة للتبصر بالأحوال والمصائر التي آلت إليها شخصياته في ظل ظروفها الخاصة التي وجدت فيها. إنها دعوة متخيلة لمعاينة المصير الذي انتهي إليه عابد، فما عابد إلا كل واحد منا في لحظة عزلته عن الآخر، التي خططت السلطة المطلقة أن تحشرنا فيها. الأمر الذي يجعل من مقاومة رموزها أو تصفية الحساب معها على نحو فردي أمر لا طائل منه، ذلك أن الثورة أو التحرّر من السلطة المتجبرة لا يمكن أن يكتب لها النجاح، دون انصهار الإرادة الجماعية لمحكوميها في لحظة الخلاص الكبرى.
إذا كان الحديث السابق عن الحبكة يدور في فلك الحديث عن المصير النهائي الذي انتهت إليه الشخصيات الرئيسية، فإن الحديث التالي سيعمد إلى أن يدور حول معاينة التحولات التي ستنتهي إليها الشخصيات في إطار تجربتها الإنسانية. فالشخصية الرئيسية كريم الزهر تتحول وتتبدل على طول الخط، سواء أثناء بحثه المحموم عن حبيبته محمودة، أو أثناء محاولته التبشير بأفكاره الشيوعية. فبعد أن كان حبه لمحمودة هو من يتحكم بسلوكه، أصبحت علاقته بلؤلؤة هي من تفعل ذلك. وبعد أن كان مستعدًا للتضحية بنفسه من أجل الأفكار التي يؤمن بها، وتنازله عن قطعة الأرض التي يملكها لغيره من الفلاحين الفقراء، أصبح مستعدًا للتنازل عنها لأخيه حليم الزهر بعد أن كشفت جولة الصراع العنيف بين الإخوة الأعداء المصير القاتم الذي في انتظار كل منهما. تقودنا تحولات كريم الدائمة، إلى وعينا بمدى التعقيدات التي تزخر بها الحياة، لتضعنا وجها لوجه أمام التفكر بالحكمة القائلة "بأن فشل المرء في تحقيق رغبته الخاصة بالحياة العادلة والسعيدة، يجب أن لا يصرفه عن الحلم بها مرات ومرات". إن كريم الحائر في "أرض الكلام" ما هو إلا نحن في طريقنا لاكتشاف قصور معارفنا ومشاعرنا في أتون التجربة الإنسانية، وإن ما من ملجأ لنا حيال ذلك القصور، سوى انخراطنا العميق في مهمة تنوير عقولنا عبر أنوار المكتبة.
السرد.. شيفرات الكاتب السردية
لا يحيل مفهوم السرد على فعل الحكي وحسب، بل يتعداه ليحيل على صاحبه، ذلك أن كل حكي لا بد له من راوٍ مصاحب له، يقوم بمهمة الإخبار عن الأحداث التي تقوم بها الشخصيات المتخيلة في الفضاء الروائي، سواء كان ذلك على مستوى السلوك الجسدي الذي يتضمن أفعالها، أو على المستوى الاجتماعي الذي يستبطن جملة تفاعلاتها الاجتماعية، وصولًا إلى رصد أفعالها النفسية بكل ما في ذلك من طرق تفكير ومشاعر وأحلام و رؤى.
إذا كانت خيارات الكاتب في انتقاء اللغة المستخدمة في الحكي أو سرد الحبكة هي من تحدد أسلوبه اللغوي، فإن اختياره لمن يقوم بسرد حكايته أي رواته هو من يحدد أسلوبه السردي
إذا كانت خيارات الكاتب في انتقاء اللغة المستخدمة في الحكي أو سرد الحبكة، أي جملة الأحداث التي ستقوم بها الشخصيات، هي من تحدد أسلوبه اللغوي، فإن اختياره لمن يقوم بسرد حكايته أي رواته هو من يحدد أسلوبه السردي. ومع أن أسلوب السرد يبدو كما لو كان مسألة جمالية بحتة، ما دام أمام الكاتب عدد من الخيارات التي يستطيع الركون إلى إحداها أو خلق تركيب خاص منها، إلا أنه غالبًا ما يظهر بمثابة الشيفرة السرية التي تميز كاتب عن آخر، كما تشير إلى حدس الكاتب العميق بقدرة أسلوبه المنتقى، على ايصال حبكته الروائية إلى قرائه المفترضين على أفضل شكل ممكن.
اقرأ/ي أيضًا: رواية "أرض الكلام".. قوة الشكل وتراجيديا المضمون
في البحث عن تفضيلات ممدوح عزام السردية في روايته موضوع الدرس، نلمس لديه انحيازًا واضحًا لجهة الراوي العليم بصيغة الضمير الغائب، خاصة في جهات الجنوب التي حضر فيها السرد بلغة الهو على طول النص وعرضه. فعن طريقه نتعرف على الطريق الذي ولجه يونس في رحلة صعوده إلى بيته المهجور في السويداء، كما إلى المشاعر التي أحدثتها رياح الجنوب المشؤومة في داخله، وصولًا إلى لحظة اكتشافه لخسارته "ثم خضَّ البوابة فانفتحت، وندَّ عنها أزيز طويل، فأدرك حالًا أنه خسر كل شيء".
يتيح السرد بلغة الهو الانتقال بسهولة من سرد الأفعال التي تنهض بها على الشخصيات بحيادية كاملة، كما لو كان الحديث عنها يتم بلغة الكاميرا ذات الزوم العريض التي ترصد الحدث بكامل تفاصيله ونمنماته "كلاهما بدأ يغرق بالوحل الكثيف"، كما تتيح في الوقت نفسه تغيير اتجاه حركة الكاميرا من السطح إلى الداخل، لاستبطان غور مشاعر وأفكار الشخصيات "بدأ الحيوان يجأر بصوت مسحوق فاجع" على النحو الذي نراه في نهاية مشهد مواجهة يونس مع الضبع بالقرب من مستنقعات الروم.
في رواية "صخرات أرواح العسل"، يفكر عزام بسوء الفهم الذي يبديه القرّاء حيال إصرارهم على المبادلة بين موقع مبدع العمل، كاتبه، والراوي الذي يندبه للقيام بمهمة الحكي. لذا نراه يقدم لنا الحَبكة من وجهة نظر الراوي المحايد، الذي وجد نفسه منجذبًا لتتبع عجائبية نبوءة شخص ما لموته. متذرعًا بأن مهمته لا تتعدى الإنصات لاثنين من الرواة، يدعي أحدهما، نائل الجوف، وجوده على مسافة كافية من أحداثها، بينما يدعي الآخر، أحمد لديّ مصادري، معاينته القريب لها. تعكس الحيلة السردية السابقة الخاصة بوجود راويين اثنين الطبيعة النسبية للحقيقة، التي تجعل من الشهود على حدث ما رواة محتملين له، الأمر الذي يسمح بتحوير الحدث من طابعه الفردي إلى طابعه الجماعي، كما يسمح بتحويل الألم الفردي أو الفجيعة إلى ألم جماعي يثير التساؤل عن العوامل والأسباب التي قادت إليه، وهي في حالتنا هذه ساكن القصر الجمهوري الذي يصر على إشعال الحرب وإدامتها.
ثمة إيمان لدى عزام بأن ثمة علاقة عميقة بين النص الأدبي واسلوب السرد الذي ينهض بتقديمه، لذا نراه يلجأ إلى سرد حكاية مكتبة السماقيات في "أرض الكلام" إلى ثلاثة رواة، يتخذ الراوي الأول دور الراوي العليم الذي يقوم بسرد الحكاية الرئيسية حب كريم وقلقه الوجودي، فيما يتخذ المعلم برهان علم الدين أحد شخصيات العمل دور الراوي الثاني، الذي ينفرد بالحكي عن هجرة أبناء القرية وتذررهم في البلاد، ومن ثم أخيرًا يطالعنا الطفل فيصل بن برهان علم الدين الشاهد على بعض الأحداث والمشارك فيها. تبدو تلك الترسيمة الخاصة بتوزيع الحكي بين الرواة الثلاثة، أقرب ما تكون للوحة فسيفسائية، التي بقدر ما يمتع كل راوي فيها باستقلاله الذاتي عن الرواة الآخرين، بقدر ما يؤثر سرده الخاص على مجمل السرد العام للحكاية وفعالية شخصياتها ومصائرهم.
ثمة إيمان لدى ممدوح عزام بأن ثمة علاقة عميقة بين النص الأدبي واسلوب السرد الذي ينهض بتقديمه، لذا نراه يلجأ إلى سرد حكاية مكتبة السماقيات في "أرض الكلام" إلى ثلاثة رواة
كان يمكن لرواة عزام الثلاثة أن يبدوا كراوٍ واحد لولا حنكة عزام الأسلوبية، التي أفردت للراوي الأساسي الجمع بين اللغة التقريرية واللغة المجازية، بينما رجحت توجه الراوي الثاني صوب اللغة التقريرية، على اعتبار أن كتاب السفر ما هو إلا وثيقة على السطح عن رحلة أهالي السماقيات صوب المجهول، لتعود وتمنح فيصل فرادته الأسلوبية التي مزجت على نحو ساحر بين لغة الوصف الطفولية والحلم. فكما سمح تعدد الرواة لعزام بالتنويع على الأسلوب اللغوي تبعًا لموقع الراوي في عملية السرد من جهة، فقد مكنه من جهة أخرى بتوظيف متعدد للزمن. حيث يجد القارئ نفسه أمام ثلاثة مستويات من الزمن. زمن خطي يبدأ من لحظة تقديم اللجنة لطلب تشكيل مكتبة، ومن ثم زمن متقدم على الأول، أي راجع إلى الخلف، هو زمن برهان علم الدين مدون كارثة الجفاف والرحيل، ثم زمن فيصل الذي يستشرف من خلاله بعض الأحداث المستقبلية التي لم يحن أوانها.
اقرأ/ي أيضًا: فواز حداد وممدوح عزام.. عن الروائي والرواية في الحرب
في تساؤل المرء عن أفضل الطرق السردية لتقديم حكاية عن الاستبداد؛ السطلة الغاشمة لأب ما وحالة الاغتراب التي يولدها ويعممها على جميع أفراد أسرته، لما توصّل لأفضل من سردها من الداخل، أي من وجهة نظر أفراد العائلة الخاضعين لذلك الاستبداد. فإن يتناوب كل من الأم سليمة والأبناء كامل ونوفل والبقية الباقية على السرد، يعني تقديم صورة مقربة عن حالات الهيمنة والعنف التي يختزنها ويرغب في ممارستها كل واحد فيهم ضد الآخر أو ضد الحصان، المقابل الرمزي لصورة الأب في وضعيته ككائن مسلوب الإرادة. إذا كان لنا أن نتفهم حضور جميع أفراد العائلة في السرد بما فيهم الصغير، فكيف لنا أن نفسر غياب صوت الأب سالم، عدم سماع وجهة نظره عن حالة الطغيان التي يعيشها بكامل جوارحه؟ لربما وجدنا ذلك في التفسير، الذي يقول بأن لا حاجة للمستبد بالظهور بمظهر الضعيف الذي يبرر عنفه أو سطوته، ذلك أن حضور المستبد الطاغي يكمن في تعاليه في احتجابه ثم تجليه عبر كلام الآخرين عنه. أو لوجدناه في حالة الاغتراب أي اللانتماء التي يعيشها الرجل، والتي تفرض طبيعتها فقدان الصلة مع غيره الأشخاص الذين يمطرهم بأوامره كما نواهيه، ذلك أن لغة التواصل البشرية تشير إلى نوع من الندية في العلاقة، كما تشير إلى إمكانية التواصل أو التوصل إلى تسوية ما بين المسيطر والمسيطر عليهم، وذلك ما تنفيه حالة الاغتراب والهيمنة.
اقرأ/ي أيضًا: