إذا كان واجبًا علينا الاعتراف بأن لكل نهج سياسي بضاعته الثقافية، فكيف يا تُرى ستكون بضاعة التطبيع الثقافية؟ ماذا ستطرح على العقول العربية اليوم وسط كل هذا الموت والخراب والدمار؟ وماذا ستبيع للقارئ العربي المهموم بمستقبل أبنائه في بلده أو في غربته؟ ومن أي المداخل ستروج هذه البضاعة نفسها؟
بضاعة ثقافية تروج لسطوة المال في ثوب فاخر
دأبت مجموعة من المجلات العربية على أن تختار "ثيمة" واحدة تناقشها من عدة زوايا، ومن عدة مراسلين، كل حسب حالة بلده، أو حسب الزاوية التي يريد أن يخرج بها طرحه إلى النور. وقد اختارت "المجلة العربية" (يمكن الاطلاع على العدد من هنا) السعودية، الصادرة في كانون الأول/ديسمبر الماضي، أن تتحدث عن المال بصفته القوة والسطوة ومفتاح تحريك ما لا يمكن تحريكه، كما ورد في مقدمة المجلة.
إذا كان واجبًا علينا الاعتراف بأن لكل نهج سياسي بضاعته الثقافية، فكيف يا تُرى ستكون بضاعة التطبيع الثقافية؟
بقراءة سيميوطيقية للصورة والمعنى ومدلولات كل منها، فقد اخترنا المقدمة والصورة، والإخراج الفني وبعض ما كُتب من محتوى للتعليق عليه.
اقرأ/ي أيضًا: عددان من "مرايا".. عودة إلى زمن المجلات
أما بالنسبة للصورة كعنصر رمزي دال، فقد كان بورتريه العدد للصحفي ورئيس تحرير صحيفة "إيلاف" السعودية الإلكترونية عثمان العمير. ولمن لا يعرف فإن "إيلاف" الإلكترونية هي صوت إسرائيل كما تحب أن تصفها صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، التي أجرت حوارًا مع رئيس أركان الجيش الإسرائيلي ، بل تطورت العلاقة بين الصحيفة و"جيش الاحتلال" إلى مشاركة في كتابة المقالات، حيث شارك أفيخاي أدرعي، المتحدث الرسمي باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، في كتابة إحدى المقالات في صدر الصحيفة.
عثمان العمير، صحفي البلاط السعودي، من نوعية الصحفيين الذي يُحسب ما يقولونه كتعبير عن سياسة دولة، لأنه يتحدث مباشرة من مطبخ الحكم، وهو عراب من عرابي التطبيع الثقافيين، فهو يؤدي الدور المطلوب منه إعلاميًا، من خلال تلميع التطبيع في "إيلاف"، والترويج لخطاب إعلامي، يرى تقاربًا بين السعودية وإسرائيلتحت مظلة العداء لإيران والتحالف مع السعودية.
المقدمة في "مجلة العربية" والتي كتبها محمد بن عبد الله السيف، حوت مجموعة من الكلمات المفتاحية هي أساس افتتاحية العدد مثل المال والاقتصاد والاقتصاديات الإلكترونية وفيسبوك وجوجل والبيتكوين، وأخيرًا مشروع نيوم مصحوبًا بالجملة اللافتة: "المجلة العربية تبارك إطلاق هذا المشروع الملهم والمتجاوز لآفاق العادي والمتوقع، ليؤسس لسياق ثقافي فريد في مفاهيم علم الاقتصاد وعالم البناء والتكوين والإنجاز والمستقبل".
الافتتاحية أسّست لكل العناوين التي طُرحت لاحقت عن الجريدة، التي كانت من نوعية "رأسملة الحياة، الحالة الاقتصادية الجديدة، سلعنة القيم.. إلخ". اللافت أن المحتوى يبدو وكأنه يتخذ موقع الناقد من التحول الرأسمالي وتأثيره على المنتج الثقافي، أو الفكري العربي، لكنه في الحقيقة يروج للرأسمالية بصفتها وضعًا قائمًا أدى إلى تحولات مفيدة، وهو ما أشار إليه مقال هند السليمان تحت عنوان "هل أسهمت الرأسمالية في تحرر جسد المرأة؟". وهو مقال يطرح جدلية تتمحور حول أن الرأسمالية انتصرت لفكرة امتلاك المرأة لجسدها من خلال دفاع الرأسمالية نفسها عن فكرية الملكية الخاصة!
تقول هند السليمان في متن مقالها: "أحد المبادئ التي تنطوي عليها الرأسمالية تتمثل في فكرة التملك، وبالتالي حقوق الملكية وأهمية السعي لخلق التنظيم السياسي والقانوني الذي يدعم المحافظة على حقوق الملكية تلك، وهي فكرة يعترض عليها الاشتراكيون واليساريون، الحالمون منهم تحديدًا، ولكن أليست الرأسمالية بمفاهيمها هي من ساهمت بشكل ما في حماية أجساد النساء تحررًا فعوضًا عن أن يكون جسد المرأة شائعًا ليس له امتلاك محدد، أصبح للجسد ملكية تنسب لشخص ما".
الحقيقة أن الطرح بغض النظر عن سطحيته وفقدانه للأبعاد الفلسفية والتاريخية، ولنموذج تفسيري أكثر عمقًا للرأسمالية الحقيقية، فإن الدكتور عبد الوهاب المسيري أورد في كتابه "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة" قوله حول الرأسمالية: "في المجتمعات الرأسمالية، ظهرت أسطورة الإنسان العصامي الذي يصعد من الأسمال إلى الثروة الرأسمالية. وهذا العصامي هو إنسان نجح في ترشيد حياته تمامًا في إطار الربح الاقتصادي والتراكم الرأسمالي، فراكم الثروات الهائلة وقمع ذاته تمامًا. ويلاحظ أن الشخصية القدوة هنا هي شخصية مستحيلة من الناحية الإنسانية، ومع هذا يستمر الترويج لها مع عدم ذكر أي شيء عن التكلفة النفسية والأخلاقية لعملية اختزال الإنسان إلى وظيفة". وبعبارة أخرى فقد تحول الإنسان وجسده إلى العبودية لرأس المال، وبالتالي فإنه حتى سيطرته على جسده تخضع لشروط رأس المال هذا ومساره.
التطبيع والتماهي مع الرأسمالية سبيل وحيد للغد العربي، بحسب مجلة "العربية"
أخيرًا، جاء الإخراج الفني في "المجلة العربية" باهتًا للغاية، رغم أن الطبعة من الورق الفاخر، فقد كانت الواجهة عبارة عن صورة كبيرة لناطحات سحاب، أمامها على نفس المستوى عملات معدنية مرصوصة فوق بعضها البعض، وتلونت الصورة بألون باهتة لم تحو فكرًا مختلفًا، لذا فهي لا تلفت النظر، أما خلفية الغلاف الخلفي في "المجلة العربية" فاحتوى بعض الإعلانات عن المجلة، مما يوحي أن الرأسمالية ليست فكرة إنما ممارسة فعلية. بينما حوى الغلاف الخلفي لها من الداخل على بورتريه عثمان العمير.
اقرأ/ي أيضًا: A Syrious Look.. مجلة سورية منصتها برلين
في النهاية، بدت البضاعة السعودية الثقافية خالية الدسم، أبوابها التالية على نفس الوتيرة تقريبًا، وإن بدت بعض الأطروحات متماسكة، ولكن ليس غريبًا أن تتحدث "المجلة العربية" مع صورة عثمان العمير، رمز بوابة التطبيع الإعلامي والثقافي العربي، عن ضرورة التماهي مع عالم رأس المال الثقافي كسبيل وحيد لبزوغ شمس ثقافية جديدة في العالم العربي.
اقرأ/ي أيضًا: