ما أهمية أي مقالة إذا كانت سترمى في مكب النسيان؟ وما أهمية أية لوحة إذا كان مصيرها التجاهل والبقاء تحت ردم من لوحات سبقتها؟ ما مصير عمل سينمائي توثيقي مهم إذا لم يجد منبرًا ليصل بواسطته للناس؟ وكيف سيثمر أي إنتاج مسرحي إذا كان ممنوعًا من التنفيذ على خشبة المسرح؟
الفن يصبح فنًا حين يصل للناس الذين يعنى بهم ويعنون به. حتى لو حمل قيمة عالية فسوف يكون فنًا محكومًا بالتلاشي فيما لو لم يتلقاه الناس، نحن كبشر موجودون أصلًا بوجود غيرنا!
هي معادلة ذات شقين، لا تكتمل إلا بوجودهما.
من البديهي جدًا الاعتقاد بوجود ترسبات معدنية وصخرية ذات طابع تشكيلي في منتهى الجمال على كوكب ما لم نسمع عنه، ومن العظيم الاعتقاد بأن هنالك أشكالًا من الفنون التي لم نعرف عنها ربما ابتكرتها مخلوقات في مجرات بعيدة، لكن ذلك لا يشكل قيمة مباشرة لنا، لأنها مجرد افتراضات وخيالات. كذلك الحال حينما يندثر منتج لا يعرف عنه أحد شيئًا، وربما نستدل عليه فقط باكتشافنا لآثار فنية أنقذتها الصدف.
كل ما سبق يحدث بشكل طبيعي في عالمنا، نتيجة للإهمال أو كسل الفنان أو كعاقبة لكارثة طبيعية أو بشرية، وضمن هذا المجال تبقى الأمور في سياق مفهوم.
غير أن المثير للحنق حاليًا أنك ترى العالم عمومًا، والعالم العربي بشكل خاص، قد تحول لبؤرة مدمرة لكل ما هو جيد، والجيد هنا هو المنتج الفني الذي يحمل قيمة فكرية وفنية مناهضة للسائد ومنافية للمطلوب من قبل الجهات الرسمية.
المثير للحنق حاليًا هو أن نرى العالم قد تحول لبؤرة مدمرة لكل ما هو جيد، والجيد هنا هو المنتج الفني الذي يحمل قيمة فكرية وفنية مناهضة للسائد ومنافية للمطلوب من قبل الجهات الرسمية
النظرة المتأملة تفيد باضمحلال الفرص لذوي الرأي الحر، وانعدام المراكب التي ستكفل لأعمالهم الانتقال نحو الضفة الأخرى التي تم الحشد لها من قبل رؤوس الأموال الفعالة والموجهة.
قد توحي اللوحة العامة بأن هنالك أعمالًا ذات قيمة فنية سواء في الأدب أو السينما أو غيرهما، وهذا مما لا شك فيه، لكنها تبقى أعمالًا ذات توجه مسالم وغير ضار بالتوجهات الحكومية لبلد ما.
الأعمال الفنية التي تحمل قيمة فنية وفكرًا انتقاديًا، يتم محاصرتها، وينزوي صانعوها بحكم الإقصاء الجبري.
بعد مرور عقد كامل على الربيع العربي، بات من الواضح أن السوق الفنية العربية صارت مغمورة بفضلات مقززة تحت شعار الفن المساوم والفن الناعم والترفيه. يحاجج البعض فيقول: لكن التردي الثقافي الذي نشهده ترد عالمي!
وقد يضرب على ذلك أمثلة لا يجانبه الصواب بها.
لكننا في النهاية معنيون بواقعنا العربي دون غيره، كأولوية. لقد صار لزامًا على كل ناقد فني يحترم مهنته أن يسن رصاص قلمه ليفند كل رخيص، وعلى كل صحفي حر يمتلك الرؤية والنظرة الخاصة أن يرصد هذه الظاهرة التي طغت حتى أتخمتنا نتانة رائحتها، ظاهرة الإسفاف الفني.
كنا نتأثر بقلة وجود معارض فنية، وصرنا نأسف حينما نرى المعارض تتكاثر كالفطر لكن لاستقطاب أعمال لا ترتقي لمستوى يستحق المتابعة.
كنا نحزن لعدم وجود مهرجانات سينمائية عالمية في بلداننا بالعدد الذي يرضينا، وصرنا متقزز من مشاهدة مهرجانات العزومات والدعوات الخاصة والبذخ الاستعراضي الفارغ.
كنا نتأسى لعدم وجود محطات فضائية متعددة، وصرنا متخمين بمحطات تفتقر للمهنية والبرامج الجيدة والمصداقية.
قس على ذلك بالنسبة للصحافة الورقية أو الإلكترونية.
قد يبدو من كل ما سبق أن هنالك أحكامًا متسرعة أو تعميمية وبحاجة للتدقيق، لكن الأكيد أن هنالك قسطًا كبيرًا من الصحة فيما يخامرنا من شعور بالفجيعة حينما نرى بأن هنالك منهجية واضحة في تغييب الكثيرين عن المشهد الثقافي والإعلامي، لأنهم يمتلكون أصواتًا لا تستطيع الرداءة العامة أن تسكتها.