آلاف المزارات الدينية ومقامات الأولياء الصالحين التي يرتادها المصريون يوميًا للتبرك والتوسل والرجاء، كعادة قديمة، يُرجعها مؤرخون إلى ما قبل دخول الإسلام، قبل أن تعزز مع دخوله، وانتقال عدد من آل بيت النبي محمد للإقامة في مصر.
إن كان للرجال الحظ الأكبر من شد الرحال إلى مقاماتهم لأغراض التبرك والتوسل وقضاء الحاجات، فإن للنساء في مصر أيضًا نصيب بالغ الأثر
بمرور الزمن، ازدادت عملية بناء المقامات على الموتى ممن يعتقد أنهم من الأولياء الصالحين، بالاستناد إلى ما رؤى في حياة عين الميت من صلاح ديني، أو بالاستناد إلى نسبه، لذا فإن المنتسبين إلى آل بيت النبي محمد، هم أكثر أصحاب المقامات التي يزورها الناس في مصر.
اقرأ/ي أيضًا: السيدة زينب.. سند المكسورين وبراح من ضل السبيل
وتكرست طقوس بناء المقامات والأضرحة، وطقوس زيارتها والتبرك بها مع ازدهار المد الصوفي في العالم الإسلامي، ومصر على وجه الخصوص. ودخلت العادات والتقاليد والأعراف المزيجة بين طبقات الثقافة المصرية من الفرعونية إلى الإسلام، وبين كل ما حاوط مصر عربيًا وفارسيًا وتركيًا وأفريقيًا؛ دخلت جميعها في طقوس الاحتفاء بالمقامات والأضرحة وأصحابها.
وإن كان للرجال الحظ الأكبر من شد الرحال إلى مقاماتهم للتبرك والتوسل وطلب قضاء الحاجات، فإن للنساء في مصر أيضًا نصيب بالغ الأثر، فكانت "رئيسة الديوان" امرأة هي السيدة زينب بنت علي، التي يقال إنها صاحبة المقام المشهور في القاهرة، بينما يشكك مؤرخون في أن تكون هي نفسها أخت الحسين، على أن المدفونة في دمشق هي كذلك، وحتى في ذلك الأمر ثمة تشكيك.
وهناك فاطمة النبوية وعائشة وسكينة ورقية، وجميعها في القاهرة، والسبع بنات في المنيا، وغيرهن نساء أخريات، أغلبهن من حفيدات فاطمة بنت النبي محمد، وأغلبهن أيضًا يشكك البعض في صحة دفنهن في مصر، لوجود مقامات أخرى لهن في الشام على وجه الخصوص، إلا السيدة نفيسة، التي كان لها تاريخ مكتوب ومرويّ بالتواتر في مصر، ودفنت هناك في المشهد المعروف.
هنا، نستعرض ثلاثةً من أبرز مقامات النساء الصالحات مما يشد إليها الرحال في مصر:
1. السيدة زينب.. رئيسة الديوان
لقبها المصريون بـ"أم الشدائد" لما رأته في حياتها من مقتل والدها علي بن أبي طالب، وأخيها الحسين الذي حملت رأسه ودفنته فيما هو مختلف عليه الآن.
وفي قلب القاهرة، مقام مشهور لها، سُمي الحي والمنطقة إلى جواره باسمها "السيدة زينب"، وهي أشهر المناطق الشعبية في القاهرة، ومن أكثرها ازدحامًا. ويحيى لها مولد يصفه البعض بالأكبر من بين موالد الأولياء والصالحين في مصر.
ولزينب بنت علي دور محوري في الفتنة التي عاشها العالم الإسلامي، وقتل على إثرها شقيقها الحسين. دورها، وخروجها إلى جانب أخيها في كربلاء، ووقوعها في الأسر، ومطالبتها برأس أخيها من يزيد بن معاوية، طبع لها مكانةً خاصة في التاريخ الرسمي والشعبي، انعكس في تعظيمها بالمقام في القاهرة، وفي دمشق.
ورغم أن مؤرخين يؤكدون أن زينب بنت علي لم تدفن في مصر، ينفي ملايين المصريين إلا أن تكون صاحبة المقام المشهود هي زينب بنت علي، أو "رئيسة الديوان" كما تُسمى، وينادى بها على عتبات ضريحها، كما ينادى لها بـ"أم هاشم".
لا يُعرف على وجه الدقة متى بني مسجد السيدة زينب، وإن تذكر بعض المصادر التاريخية أن أول تجديد له كان في عهد السلطنة العثمانية، تحديدًا في منتصف القرن الـ16 الميلادي. والمسجد القائم الآن، لا علاقة له في البناء بالمسجد الذي جدده العثمانيون، فهو بناءُ الأوقاف المصرية في أربعينات القرن المنصرم، وعليه فالمسجد غير مسجل كأثر تاريخي.
وفي بداية نيسان/أبريل من كل عام، يقام مولد ضخم للسيدة زينب، بحضور عشرات الآلاف. ويقال إنه أضخم الموالد في مصر. ويستمر على مدار أسبوع، تؤمه الطرق الصوفية، وينتشر بين حاضريه الدراويش والباعة الجائلون، والقادمون من أقاليم الدلتا والصعيد، مع حضور مكيف للمنشدين والمداحين، وعلى رأسهم، محيي "الليلة الكبيرة" المداح ياسين التهامي.
2. السيدة عائشة.. صاحبة المقام العالي
صاحبة المقام المعروف في مدينة القاهرة، على مقربة من منطقة جبل المقطم حيث قلعة صلاح الدين. وكما العادة، ينسب المسجد والمنطقة من حولها إليها. ويطل المسجد على أحد أشهر ميادين القاهرة، والمسمى أيضًا ميدان السيدة عائشة.
ومن أشهر المغالطات الشعبية حول صاحبة المقام، أنها عائشة بنت أبي بكر، زوجة النبي محمد. لكن المقام لعائشة من نسل أبناء الحسين. ويُرجّح البعض أنها نفسها عائشة بنت جعفر الصادق بن محمد الباقر حفيد الحسين بن علي، نسبة لمصادر تاريخية، على رأسها ما كتاب "تحفة الأحباب وبغية الطلاب في الخطط والمزارات" لصاحبه علي السخاوي.
ويروى أن وجودها في مصر تزامن مع وجود عمتها السيدة نفيسة، صاحبة المقام المشهور، وأنها دفنت في مصر، في مكان ضريحها الحالي الذي طُوّر بناؤه أول مرة في عهد صلاح الدين الأيوبي، وجدد المسجد عدة مرات على مدار التاريخ.
وللسيدة عائشة صاحبة المقام، التي لا يعرف عن سيرتها الكثير، وضعية خاصة في الثقافة الشعبية المصرية، فيرد المئات يوميًا لمقامها للتبركات وطلبًا لقضاء الحاجات. ويُسميها المصريون بـ"صاحبة المقام العالي"، ويُشتهر شعبيًا أن "قبتها فيها الدعاء يجاب" لما كتب على مقامها.
3. السيدة نفيسة العلوم
لنفيسة بنت الحسن، حفيد الحسن بن علي بن أبي طالب، تاريخ في مصر موثق بالكتابة والرواية المتواترة، ما يجعل مقامها المشهور في القاهرة القديمة، أوثق مقامات آل البيت، وأحد أكثرهم اشتهارًا بين المصريين، وفي كتب التاريخ.
وقد ارتبط اسم السيدة نفيسة بمحمد بن إدريس الشافعي، صاحب المذهب المعروف، الذي أقام في مصر ودفن فيها، وكان يتردد عليها للزيارة والعلم.
كتب عن السيدة نفيسة وروي عنها الكثير. وقد ذاع صيتها في مصر منذ دخلتها، والتف حولها المصريون تبركًا في حياتها وفي مماتها. وكان يطلبها الكثير من العامة والعلماء طلبًا للعلم، حتى سُمّيت "نفيسة العلوم".
بني على قبرها مقام منذ الدولة العباسية، وجدد عدة مرات على مدار التاريخ: في الدولة الفاطمية والعثمانية ومن أمراء المماليك وفي العصر الحديث.
يقع المسجد والضريح فيما يعرف الآن بميدان السيدة نفيسة، على طريق يُعرف باسم "طريق آل البيت" لامتداده بين العديد من المقامات والأضرحة المنسوبة لرجال ونساء من آل بيت النبي محمد، منهم زيد بن علي والسيدة زينب وسكينة بنت الحسين ورقية بنت علي ومحمد بن جعفر الصادق وحتى عاتكة عمة النبي محمد.
وحديثًا، اشتهر ليس فقط بكونه مزارًا دينيًا ومحل احتفال بمولد يحضره الآلاف، وإنما أيضًا بقعة لخروج جنازات المشاهير في مصر، من فنانين وإعلاميين وسياسيين، يوصون أو يوصى لهم بالصلاة عليهم في مسجد السيدة نفيسة وخروج جنازاتهم منها!
اقرأ/ي أيضًا:
احتفالات المولد النبوي في مصر.. طقوس مرتحلة من ألف عام
مولد السيد البدوي في مصر.. آلاف الأرواح معلقة بـ"جايب الأسرى"