في إعلان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قبل أسابيع عن إطلاق حوار وطني، توجه بالدعوة إلى فئتين: "القوى السياسية" و"القوى الشبابية". تثير تلك الصيغة قدرًا من الارتباك والتوجس، ولذا استقبلها البعض على أنها علامة عدم جدية. فإن كان الحوار سياسيًا، فلماذا تفصل فئة "الشباب" وتعامل كأنها من خارج القوى السياسية أو مكافئ لها في وجه من الوجوه. ولو كان المقصود أن يكون الحوار جامعًا، أي يشمل ممثلين عن كافة فئات المجتمع، فلماذا الشباب دون غيرهم؟ الجدير بالذكر، أن مسؤولية إدارة الحوار والإشراف عليه تم إسنادها إلى الأكاديمية الوطنية للتدريب، وهي مؤسسة تابعة لرئيس الجمهورية مباشرة، وعادة ما تتم الإشارة إليها بوصفها "مؤسسة شبابية"، فهي الموكلة لها مهمة الإشراف على مؤتمرات الشباب السنوية، والمؤتمرات الدولية للشباب، والتي غدت تقليدًا سياسيًا توليه الدولة ورئيس الجمهورية على وجه الخصوص اهتمامًا لافتًا. يدفعنا هذا كله إلى السؤال ما هي"القوى الشبابية"، وبالأولى ما هو الشباب أو من هم؟
كانت ثورة يناير هي ما أفشلت هذا المشروع الشبابي للجيل الجديد من آل مبارك. والمفارقة، أن يناير نفسها سرعان ما سيتم تشبيبها
على الرغم من بداهته، يظل السؤال إشكاليًا. فتعريف الشباب ليس بالبساطة الظاهرة. فمن حيث الفهم اللغوي المباشر تقع مرحلة الشباب في المسافة بين الطفولة وكبر السن. وفي هذا تتقاطع مع تقسيمات عمرية أخرى بشكل غير حاسم، مثل البلوغ والمراهقة والكهولة والفتوة. بل وحتى الطفولة يصعب تعيين حدودها العليا، فحتى أي عمر يظل المرء طفلًا؟ يخضع الأمر لعدة اعتبارات، منها البنية القانونية والتقاليد الاجتماعية وشكل المؤسسات المعنية بالطفولة وتعريفاتها، وهي أمور تبدو متغيرة. بالقياس، يصعب وضع محددات بيولوجية لمرحلة الشباب، فبحسب تعريف الأمم المتحدة يقع الشباب بين عمر 14 و25 عامًا، وتذهب بعض مؤسسات الاتحاد الأفريقي لتحديده بين عمر 16 و35، وتتفاوت التعريفات الرسمية والمؤسسية بشكل شاسع، مغطية مساحة تتمدد بين الرابعة عشرة والأربعين، بحسب معايير تبدو اعتباطية في معظم الأحيان.
تاريخيًا، يمكن الجزم بأن الشباب مصطلح حديث، أي يرتبط بالحداثة. بالطبع وُجدت اللفظة في الاستعمال اللغوي قبل هذا بكثير، أما فهمها كتعريف له دلالات وتبعات تتعلق بالسياسة والاجتماع فيمكن تتبع بداياته إلى القرن الثامن عشر وربما إلى مرحلة متأخرة في القرن اللاحق. كانت الكشوف العلمية الحديثة والتوسع في مؤسسات الصحة العامة كفيلة بتحقيق ارتفاع كبير في متوسطات الأعمار بين السكان. من الناحية الديموغرافية، غدت الفوارق على خط الأعمار واسعة بما يسمح بتطور مفهوم الشباب ككتلة سكانية مستقلة بذاتها (ففي السابق، كانت أغلبية السكان تنتهي أعمارها في حدود سن ما يعرف اليوم بالشباب). أما في العلاقة بالنشاط الاقتصادي، فإن توسيع قاعدة التعليم الإلزامي وكذا الجامعي مع صعود الطبقة الوسطى نهاية القرن التاسع عشر، كان يعني تكون جماعات سكنية غير نشطة اقتصاديًا، إما بسبب انخراطها في التعليم الأساسي أو بسبب معدلات البطالة العالية بين خريجي الجامعات. من البداية، تم التعامل مع فئة الشباب بوصفها معضلة تحتاج إلى حل سياسي.
منحت الدولة الأمة لمفهوم الشباب أبعادًا إضافية. فغير أنها الفئة ذات الطاقات الأعلى والقدرة الأكبر على الإنتاج والتناسل وفي الحروب، فهم أيضًا عنصر تجدد الأمة جيليًا. بشكل مجازي، عممت صفة الشباب على الأمة كلها، منذ "فرنسا الشابة" بعد الثورة الفرنسية وصولًا إلى "إيطاليا الفتاة" في مرحلة صعود الفاشية، وهو ما تم نسخه محليًا بشكل متطابق على مستوى لفظي في حزب كان يحمل اسم "مصر الفتاة".
ومع ارتباط مفهوم الشباب بالحروب، في خوضهم لها ولأنها تشن باسمهم في معظم الأحيان، فإنه لم يرتبط بالثورة بهذا الشكل الوثيق. كانت الثورات الفلاحية، وثورات العامة والجوعى و ثورات "العمال والجنود" مرتبطة بتقسيمات اجتماعية وطبقية ليس من بينها الشباب. ولعل تضمين الشبابية داخل معجم الثورة يعود فقط إلى عقد الستينات، ويجد جذوره في الثورة الثقافية الصينية وتجلى في أوروبا في ثورة الشباب الفرنسية 1968. تلا ذلك العقد تفجر للشبابي في حقل الثقافات الفرعية والاستهلاك وموجات التمرد المرتبط بالشبابية كتعريف هوياتي أكثر منه فئة عمرية.
في سياق مصري، لم يكن الشباب جزءًا من العقد الاجتماعي للعصر الناصري، فتحالف قوى الشعب ضم فلاحين وموظفين وعمال وطلبة لكن مفهوم الشبابية ظل هامشيًا. بشكل تقريبي يمكن نسبة صعود مصطلح الشباب على الأجندة السياسية إلى النصف الثاني من حكم مبارك، وبالأخص مع تبني الدولة للخطاب النيوليبرالي واقتران هذا بالعمل على مشروع التوريث لجمال مبارك. وكانت جمعية "شباب المستقبل" تكثيفًا رمزيًا لهذا التقاطع ومحاولة منح النظام صورة عصرية.
كانت ثورة يناير هي ما أفشلت هذا المشروع الشبابي للجيل الجديد من آل مبارك. والمفارقة، أن يناير نفسها سرعان ما سيتم تشبيبها. فإسباغ صفه الشبابية على الثورة جاء في مرحلة مبكرة جدًا من جهة السلطة وبالأخص في خطاب القيادات العسكرية، وككل هوية يتم إسقاطها من أعلى على فئة اجتماعية، فإن أفرادها يبادرون بتبنيها وتجذيرها. تشكل "ائتلاف شباب الثورة"، ولاحقًا مجموعات أخرى تحمل الصفة نفسها، مثل "اتحاد شباب ماسبيرو" الذي تأسس بين الأقباط.
لصفة الشبابية عدة وجوه تم توظيفها لمصالح متضاربة في المرحلة التالية لسقوط مبارك. ففي الخطاب الأبوي للجيش كانت الشبابية تعني الحماس الصادق والنية الحسنة، البراءة والنقاء الطهارة، لكن وفي الوقت ذاته توحي بالتسرع وقلة الخبرة وسرعة الغضب والحماس الزائد. بالنسبة للمنتسبين للثورة، كانت شبابيتها تعني الغضب والمعاصرة والقطيعة الجيلية والتمرد ضد القائم.
مع ارتباط مفهوم الشباب بالحروب، في خوضهم لها ولأنها تشن باسمهم في معظم الأحيان، فإنه لم يرتبط بالثورة بهذا الشكل الوثيق
يرث النظام الحالي من فترة مبارك مؤسسات مخصصة للشباب وخطابًا سياسيًا بشأنهم. وكان للصدمة التي أحدثتها يناير أن تعمق من الاهتمام المنصب على مسألتهم. على هذه الخلفية، يتعامل النظام مع الشباب بوصفهم معضلة ديموغرافية قابلة للتسييس أو للانفجار السياسي، فهم يشكلون أغلبية السكان في مصر وبالضرورة تتركز معدلات البطالة الأعلى بين صفوفهم. ويجد النظام نفسه اليوم معنيًا بمحاورتهم ولو صوريًا، ومن جهة أخرى يضع من بين أولوياته هدف تعريفهم كفئة منزوعة السياسة ومفصولة عن قواها.