في آب/ أغسطس عام 2021، تداول مثقفون مصريون صورة تُظهر تكدّس القمامة أمام مدخل بيت الروائي العراقي غائب طعمة فرمان (1927 – 1990) المُهمل رغم المناشدات المستمرة لترميمه وتحويله إلى متحف يحفظ تراث فرمان الذي يُعتبر من مؤسسي الرواية العراقية المعاصرة.
بدت الصورة في حينها مثالًا واضحًا ومؤلمًا للطريقة التي تُعامل بها المعالم الثقافية لا في العراق وحده، وإنما في دول عربية مختلفة، يلقى فيها المثقف وإرثه ما يلقاه بيت صاحب "النخلة والجيران" منذ عقود طويلة، إذ كان بوسع الحكومة العراقية خلالها ترميمه وتحويله إلى متحف يرد الاعتبار لصاحبه الذي جُرِّد من جنسيته مرتين، ومات في المنفى.
تُعبّر الحوادث المتكررة لإهمال المعالم الثقافية البارزة عن بؤس التعامل مع الميراث الفني والأدبي في العالم العربي، كما تُعبّر عن مصائرنا في ظل أنظمة قمعية لا تتوقف عن العبث بالذاكرة
وبعد أكثر من عام على انتشار تلك الصورة التي لم تُغيِّر من الأمر شيئًا، تداول مثقفون مصريون صورة لمقبرة عميد الأدب العربي طه حسين وقد وُضعت عليها علامة "X" باللون الأحمر، تبيّن أنها تُشير إلى نية الحكومة المصرية هدم المقبرة وإزالتها بسبب التوسعات التي تجريها على الطُرق لأجل تفادي الازدحامات المرورية. وقد أثار خبر الإزالة في حينها جدلًا واسعًا في أوساط المثقفين المصريين، انتهى باستجابة الحكومة للأصوات الرافضة لهدم المقبرة التي تفاجأ المصريون، بعد مدة قصيرة، ببناء جسر مروري فوقها.
في هذا الوقت، كانت عمليات الهدم في محيط المقبرة لا تزال مستمرة رغم السخط الشعبي المتزايد. وفي نهاية أيار/ مايو الماضي، بلغت عمليات الهدم والإزالة مرحلة خطيرة بحسب وصف المصريين بعد تداول أنباء تُفيد بنية الحكومة هدم مقابر عدة شخصيات أدبية وتاريخية، كالشاعر محمود سامي البارودي، والشاعر حافظ إبراهيم، والكاتب يحيى حقي، والإمام ورش، والعديد من الشخصيات السياسية والعسكرية والدينية.
تأتي عملية هدم المقابر الأثرية وإزالتها بعد أقل من عامٍ على إزالة عوّامات النيل السكنية، التي تُعد من أهم معالم القاهرة وآخر ما تبقى من زمنٍ جميل ارتبطت فيه العوامات بالفن والأدب والسياسة، إذ كانت من الأماكن المفضلة للعديد من الأدباء والفنانين، أبرزهم نجيب محفوظ الذي يُقال إنه كتب في إحداها روايته الشهيرة "أولاد حارتنا".
في السياق نفسه، ولكن في بغداد هذه المرة، يتداول العراقيون بين وقت وآخر صورًا تُظهر انهيار أجزاء جديدة من "مسرح الهلال" الأثري، الذي يقع في شارع الرشيد بمنطقة الميدان وسط بغداد، ويعود تاريخ تأسيسه إلى عام 1918، ويمثّل جزءًا مهمًا من ذاكرة بغداد وأهلها، وشاهدًا على حضور أم كلثوم إلى مدينتهم التي أحيت أول حفلاتها فيها على خشبته سنة 1932.
ما يحدث في مصر والعراق، يحدث أيضًا في دول أخرى كالسودان التي تُهدِّد الحرب الدائرة فيها بين العسكر ذاكرتها وإرثها الأدبي والفني، وسوريا التي دمّر النظام ببراميله المتفجرة الكثير من معالمها الثقافية والأثرية، وأهمل أخرى كان بإمكانه إنقاذها، مثل حي ساروجا الذي قضى حريق يُرجّح أنه مفتعل، قبل أيام، على جزء كبير من معالمه، أهمها قصر أمير الحج في دمشق عبد الرحمن باشا اليوسف، وأجزاء من قصر خالد بك العظم.
تُعبّر هذه الحوادث المتكررة عن أحوال الثقافة البائسة في العالم العربي، كما تُعبّر عن أحوالنا في ظل أنظمة شمولية قمعية لا تتوقف عن العبث بالذاكرة عبر الهدم والإزالة أحيانًا، أو الإهمال المتعمد في أحيان أخرى.