1
ما يحدُثُ حاليًا في غرب إفريقيا يُشبِه ما عرِفه المؤرّخون بالهبّة إلى إفريقيا (The Scramble) التي من خلالها تدافَعت أوروبا على القارّة واقتسمتها في أواخر القرن 19م. لكن التسابُق اليوم إلى إفريقيا يتسِم بدخول قوى "جديدة"، سواء كانت دولية كروسيا والصين وتركيا أو إفريقية كالجيش والجماعات الأهلية والقتالية. وبهذا المعنى فإنّ العربية، إن لم يكن العرب، هي أيضًا من هذه القوى المتدافِعة على إفريقيا. فرغم أنّ التغطيات الإخبارية العربية تُنتقَد أحيانًا بالتسطيح، إلاّ أنّها أبانت عن وجود طبقة أهلية إفريقية ناطِقة بالعربيّة، كانت مهمّشة فأصبَحت اليوم تُنبِئُ بالشعور الإفريقي بعربية أهلية. كان هؤلاء موجودين دومًا في الثقافة الإفريقية، ولكنّهم صاروا مرئيين للاستخدامات الزمانية، لا الدينية فحسب.
عودة العربية إلى إفريقيا تُغري بالاشتباك مع ما سُمِيَ بالفتح العربي. لم يربط العرب بين إفريقيا وثقلها جنوب الصحراء، بل اختزلوها في تونس (تمامًا كما اختزلها الإغريق في ليبيا). وما سُميِ بالفتح العربي توقّف شمال إفريقا، ولكن أثره الثقافي والتجاري نفَذَ سريعًا بالتجارة والأسلمة إلى جنوب الصحراء، وخلَق هنالك ممالك إفريقيا الوسيطة كغانا ومالي والسونغاي وكانم وبورنو، حتّى المتأخّرة كالفونج في السودان وموزنبيقات الساحل الشرقي.
درَس مؤرخو الساحل وجنوب الصحراء هذه العملية في سياق آخر الموجات التعريبية المتسِمة بتوسّع المجتمعات البدوية العربية فيما بعد القرن الخامِس عشر، كبني حسّان في موريتانيا وشمال السنغال ومالي، والقبائل العربية في جنوب ليبيا والسودان والتشاد، والممالك العربية، وبالأخصّ اليعاربة وآل بوسعيد وخصومهم آل الميزوري، الذين طردوا البرتغاليين وسيطروا على ممالك كينيا وتنزانيا والصومال في القرن 18 و19م.
هل عاد الفتح العربي لإفريقيا من خلال عودة العربيّة والصعود الاجتماعي لعلائقها الإفريقية؟ هل عاد التاريخ ما قبل الاستعماري بوجود نخب إفريقية متعلّمة بالعربيّة وتغالب هيمنة فرنسا وأمريكا باعتبارها استعمارًا جديدًا؟
واستمرّت هذه العملية في وقتٍ ضعفت فيه الثقافة العربية في المركز ولكنّها ظلّت لغة الزحف الإسلامي، الذي لم يوقِفه إلاّ المدّ الاستعماري (بل تواكَب معه. فمثلًا انتشَر الإسلام في ساحل العاج في العهد الاستعماري وتحت ظلّ الفرنسيين) حيث كانت العربيّة اللغة المهيمنة على الساحل والسودان وتنزانيا، خالقةً بذلك أثرًا للعربيّة من السواحلية وغيرها من اللغات الإفريقية. وظلّت نتائج "الفتح العربي" تُشاهد حتّى مطلع العهد الاستعماري فمثلًا في أواخِر القرن التاسِع عشر استطاع مغامِر سوداني هو رابِح فضل الله أن "يفتَحَ" التشاد وأن يقيم بها دولة على أنقاض دولة بورنو العريقة. وكان مصرعه 1900 على يد الفرنسيين رمزًا لاستبدال النفوذ العربي بالاستعماري.
وطبعًا فقد بالغ بعض هؤلاء المؤرّخين في رؤيتِهم الفتوحاتية لتاريخ إفريقيا. فهو لم يكن دومًا خطيًا. وبقدر ما كانت الهجرة العربية إلى الجنوب مؤثّرة فإنّ نقيضها تمثّل كذلك في التحاق الأفارقة بالمجتمعات الشمالية العربية والأمازيغية، وبالأخصّ فيما سُمي بحروب الجهاد في القرن 19. وقد أتاح مؤخّرًا المؤرّخ پول لُوفْجُويْ فهمًا لهذه الحروب بتشبيهها بالثورات الأوروبية واللاتينية، وبدل اختزال تاريخ المنطِقة في الدّين رآها حراكات تمفصلت فيها علاقة الدولة والوطن والأقوام وطرائق الحياة وتشكّلت فيها الهوية الحديثة. وقد بدأت هذه الحروب من موريتانيا من خلال حملات الشيخ ناصِر الدّين في القرن السابع عشر، التي ورثها أتباعه البولار، وحوّلوها إلى حركة قومية دينية غيّرت بنية إفريقيا وصعّدت المجاهدين البولار في نيجيريا حتّى مناطِق الفوتا في السنغال ومالي وموريتانيا وبوركينافاسو والنيجر.
هل عاد الفتح العربي لإفريقيا من خلال عودة العربيّة والصعود الاجتماعي لعلائقها الإفريقية؟ هل عاد التاريخ ما قبل الاستعماري بوجود نخب إفريقية متعلّمة بالعربيّة وتغالب هيمنة فرنسا وأمريكا باعتبارها استعمارًا جديدًا؟ لقد عاد التاريخ العربي إلى إفريقيا من مسالتين: أوَلًا أنّ العنف الجهادي، الذي كان ثِقله عربيًا، قد بدأ ينتقِلُ إلى إفريقيا، التي صارت تبزّ المجال العربي في العمليات الجهادية. والثاني أنّ الربيع العربي، المتمثّل في دخول الشارِع المتسيّس في عملية التغيير، قد انتقَل كذلك إلى إفريقيا.
2
ولعلّه من الاحسَن النظر إلى "الربيع الإفريقي" الحالي أنه حلقة أخرى من الربيع العربي، الذي أُخمِد (مؤقّتًا؟). وبالأخصّ عندما انهارَت ليبيا فتدفّق السلاح والميليشيات التي كانت محتضَنة فيها إلى الساحل، وبالأخصّ مالي، فانتقلت عين العملية التي بدأت لدى العرب إلى الأفارقة. كان القذّافي قد استأنف بقدر ما أنهى "الفتح العربي" الجديد لإفريقيا عندما أخذّ المقاتلين العرب والطوارِق الذين استعصوا على الإقلاب الاستعماري في طموحاتِه الإقليمية والدولية. وقد ارتأى نفسَه وريثًا لجمال عبد الناصر واسترتيجي العرب الجديد. وكان له ذوق أنثروبولوجي خاصّ؛ فاعتبَر الطوارق والزغاوة عربًا. وفي البداية حاول إكمال "الفتح العربي" بتوسيع دائرة حيوية "عربية" في الساحل والتشاد والسودان. فقوّى ما سُمِي بـ"التجمّع العربي" في السودان والتشاد، وخلق به إرهاصات الجنجويد. ولكنه لاحقًا أنهى "الفتح العربي" بأخذ هؤلاء المقاتلين في مشروع يتجِه شمالًا، هو مشروع "الفيلَق الإسلامي"، حيث حاربوا ليس فقط في التشاد والسودان، بل في لبنان وفلسطين وأوغندا.
سرعان ما أغرى الفيلق الإسلامي الطوارق الذين قاتلوا لتحرير قومياتهم في مالي والنيجر فالتحقوا بالحاجات العسكرية للقذافي وحصل بعضهم على وعود شفهية بتحرير بلدانهم. في ليبيا تحوّل الطوارق من حركة ريفية إلى طبقة وسطى؛ وتوسّعت القومية الطوارقية باكتشافهم اختلافاتهم الثقافية وتولّد لهم بذلك حنين لدولة تجمعهم، وبدأوا يدافعون إمّا عن الاستقلال أو الحكم الذاتي. وصار مقاتلوهم يرجعون من هجرتهم الليبية والجزائرية لإيقاد الثورة مِرارًا في مالي والنيجر في التسعينيات. والحقيقة أنّ الثورة االطوارقية الثالثة التي قادَها أغ باهنغاه في 2006 كانت مثلها مثل أحداث أكديم أزّيك في الصحراء الغربية في 2010، من إرهاصات الربيع- بما فيه العربي- في المنطِقة.
عندما انهار نظام القذافي بمزيج من ثورة شعبيّة وتدخّل من الناتو انفتَح معه الربيع الإفريقي. تغلغلت الترسانة الليبية مع عودة المقاتلين الطوارق إلى الساحِل. بخلاف مالي فإن النيجر استطاعت تقديم برنامِج لنزع التسلّح ونقاش اللامركزية سريعًا. ولكن السلاح الليبي، بدون الطوارق، وصَل حتّى بوركينافاسو وكان أساسيًا في تقوية الحركات الإسلاموية. أمّا في مالي فقد قادت الحركة الوطنية لأزواد (لاحِقًا "الحركة الوطنية لتحرير أزواد") حراكًا لتوسيع الحكم الذاتي في عزّ الربيع العربي في أواخِر 2011. ومع فشَل الدولة المالية، بالذات بسبب فساد إدارة أمادو توماني تورى وتورّطها في بيع الأسلِحة للثوار والجماعات الجهادية، أعلنت الحركة الوطنية في 2012 استقلال أزواد، الذي يضمّ المدن الصنهاجية التاريخية كتمبكتو وغاو وكيدال. وانهار نظام تورى ومعه دولة مالي بمزيج من هزيمة الجيش وهجمة شعبية على القصر الرئاسي وانقلاب عسكري.
غير أنّ نفس سيناريو الربيع العربي وهو صراع الحركة الوطنية مع الحركة الإسلامية سرعان ما أفشَل الثورة. فقد توحّدت الفصائل الجهادية كـ"القاعدة" و"الجهاد والتوحيد" ضدّ الحركة الوطنية ومنعتها مكاسِبها غداة اعتزامها إعلان الدولة الازوادية في 6 أبريل. فأخذتا منها تمبكتو وغاو؛ أمّا كيدال فقد وقت في يد حركة أهلية أصولية هي "أنصار الدّين". وفيما تحوّل الشمال المالي إلى حرب بين الأصولية وحركة التحرّر في ظلّ فشل تامٍ للجيش المالي تدخّل الفرنسيون بعملية سرفال (2013) وجدّدوها ببرخان (2014)، التي هزمت، لحينٍ، الأصولية وأعطت للمجتمع الدولي، ممثّلًا بالأمم المتحدة وإيكواس والحكومات الغربية، الفرصة في إقامة حوار وطني يوافِق سيادة مالي بحكم ذاتي موسّع للطوارق.
ما جعل العسكرتاريا الجديدة تبدو كما لو أنّها حركة وطنية أو تحرّرية أنّها بادرت إلى فصَم حِلفها مع الغرب. وقد بلغ هذا مداه في الشقاق بين المؤسسّة العسكرية والنظام الغربي
وسرعان ما أخذت الرئيس المالي الجديد، إبراهيم أبو بكر كيتا، العزّة بالحِلف الفرنسي فأراد عدم المضي في العملية السياسية التي اتفق عليها والتي تضمن اللامركزية الموسّعة في سياق عملية انتخابية؛ وحاول إعادة تركيع الحركة الأزوادية. غير أنّ جيشَه هُزِم هزيمة نكراء في أحواز كيدال في 2014. وسرعان ما انهار النظام في مالي مرّةً أخرى؛ ودخل في لعبة الأمم. فبليز كومباوري ومحمّد السادس دعموا الحركة الأزوادية. أمّا الجزائر فقد دعمت الحكومة المالية. وتولّد صِراعٌ بين مالي وإيكواس، في فترة رئاسة كومباوري، ناهيك عن السياسات االكواليسية والنفوذية لأميركا وفرنسا. وفيما ضمنت الجزائر بعد إدخالها شريكًا اتفاق السلام في 2015 فإنّ المنطقة دخلت حربًا باردة خفية سرعان ما أفشلت السلام.
3
فيما بعد احتقانات 2015 تطوّر الربيع الإفريقي. فقد خلق انهيار الدولة المالية ردود فِعل شتى. من ناحية تحوّلت الجهادية إلى حركة مغالبة على الدولة. التأمت القاعدة والمرابطون وكتيبة ماسينا خلف قيادة إياد غالي، وبدأوا يفصِمون علاقة الشعب الشمالي بالشعب المالي من خلال قتل المرتبطين مع الدولة المالية من أساتذة ومفتشين وجمرك.. إلخ. وسرعان ما تحوّلت الجهادية إلى حركة أهلية مغالِبة على الدولة ليس فقط في مالي، بل وفي بوركينافاسو والنيجر، وتُهدّد ساحل العاج ونيجيريا.. إلخ.
ومن ناحية أخرى، خلق هذا حراكًا وطنيًا إفريقيًا يقوم على حِلف جديد بين الجمهور السائد عرقيًا والعسكر يهدِف إلى إنقاذ البلد. وبدوره جعَل هذا من العسكر القوة الوطنية التي يُناطُ بها حماية الأمّة من التردّي ومن الحركات الانفصالية والقتالية. وهكذا وُلِد الجيل الجديد من العسكرتارية الإفريقية، التي استعادت الوشائج الوطنية للانقلابات العسكرية منذ بواكير الاستقلال. ففي بوركينافاسو جاء الانقلاب على أنقاض حراك شعبي ممتعِضٍ من فشل الحكومة أمام الجهادية وظلّ مستمِرًا من أواخر 2021 حتّى سقوط الرئيس كابوري في مطلع 2022. واعتملَت هذه الحركة الشعبية بطريقة ما في النيجَر من خلال حركة M62 التي وإن نجح النظام في تفريقها وشرائها قد بقيت في خلفية الانقلاب الذي قادَه عبد الرحمن تشياني.
ومِمّا جعل العسكرتاريا الجديدة تبدو كما لو أنّها حركة وطنية أو تحرّرية أنّها بادرت إلى فصَم حِلفها مع الغرب. وقد بلغ هذا مداه في الشقاق بين المؤسسّة العسكرية والنظام الغربي، الذي كان يُقدّم نفسَه أنّه ضامِن الدولة الوطنية والمسار الديمقراطي في إفريقيا.
وهكذا ارتبطَت شعبية الانقلابيين بتصاعد المشاعِر المعادية لفرنسا في غرب القارّة. وصحيحُ أنّ بعض هذه المشاعر يتكلّم ثقافة عربية محافظة دينيًا وشبه سلفية إلا أنّ الأمر لا يتعلّق بالشعبوية بقدر ما يتعلّق بالاستراتيجية: إذ إنّ الانقلابات كانت ممّا أغلَقه النفوذ الغربي في إفريقيا. بينما حقيقة الأمر أنّ الضباط التحقوا بالجيش طمعًا في السياسة، لا انعزالًا عنها. والغرب هو ما يمنعهم من الشجرة الملعونة. وكان الأمر في جزءٍ منه يتعلّق بخلافات المؤسّسة العسكرية مع الرئاسة، التي كانت متحالِفة مع فرنسا؛ فارتبَط تذمّر العسكر من تصرّفات الرؤساء إلى توتّر بين العسكر والفرنسيين الذين من خلال سرفال وبرخان أرادوا إعادة تنظيم الدولة الإفريقية حول نواةٍ متحالِفة مع فرنسا.
في البداية، كان تمرّد الجيش لصالح السياسة الفرنسية، بعد فشل عسكرة إبراهيم كيتا. ولكنّه سرعان ما تحوّل إلى مواجهة مع الفرنسيين. في غينيا تعلّق تمرّد العسكر بإخفاق الرئاسة. ونفس الشيء حدَث في مالي في تمرّد أسيمي غويتا وفشل تقاسم السلطة مع العسكر. وسرعان ما استغلّ العسكر التلكؤَ في مجابهة الجهادية وفشل الديمقراطية (باعتقال المعارضين) إلى ذريعة انقلابية. كان بعض الانقلابيين الأفارقة، كبول هنري داميبا وعبد الرحمن تشاني، قد أحبَطوا انقلابات على الرئاسة. ولكنّهم أفضَوْا إلى أن وجّهوا بندقياتهم إليها.
يتسُم الربيع الإفريقي بدور حيوي للانقلابات العسكرية. ويعود جزءٌ من عودتها إلى سيناريو تقليدي متعلّق بتقوية مؤسّسة الرئاسة للحرس الرئاسي على حساب بقية وحدات الجيش، ممّا يجعله القوة الوحيدة ويسهّل عليه الانقلابات. فالرئيسان محمدّ إيسوفو ومحمّد وبعزوم قوَيا الجنرال تشياني، وكان الأخير حاذِقًا فأغرى قادة الجيش بانقلابات ثمّ أحبطَها حتّى استفرَد. إنّ هذا هو سيناريو الانقلاب الموريتاني في 2005 و2008، الذي قوّى الجنرالين، محمد ولد عبد العزيز، قائد الحرس الرئاسي ومحمّد ولد الغزواني، حليفه من قيادة أركان الجيش، ورأسّهما على البلاد. ويعود جزءٌ منه إلى فشل التحالُف بين الجيش والرئاسة. ففي مالي انهار تحالف غويتا وكيتا بأزمة اعتقال المعارِض سوميلا سيسى. ونفس الشيء في بوركينافاسو، حيث أدّى تناقُض السياسات العسكرية لكابوري مع رؤية الجيش بقيادة داميبا إلى طريق اللاعودة.
ويعود جزءُ من الصراع، والأخصّ في النيجر، إلى تناقض النظام الاقتصادي السياسي للجيش مع الجمهورية. فقد اقتضَت السياسات الاشتراكية ليوسفو وبازوم إلى خفض الانفاق العسكري وتخصيص أموالِه للبرامِج الاجتماعية للدولة. وسرعان ما أدّى تذمّر العسكر من لمس صناديقهم إلى صراع. نفس الشيء حدَثَ في موريتانيا من خلال منع العسكر نقاش ميزانياتهم من قِبل المدنيين (لأنّ ذلك بزعمهم يكشف أسرار الدولة). والحقّ أنّه ليس صراع السيادة والشفافية بقدر ما هو صراع نظامين ريعين: نظام الصناديق السوداء للعكسر مقابل ريعية المدنيين. لقد سمّى أحد المحلّلين هذه الريعية الأخيرة بالنظام الغوري: وهو النظام الريعي الذي يحكُم معظَم إفريقيا الديمقراطية وهو نظام فاسِد يقوم فيه الحزب الحاكم باحتكار وتوزيع الموارد بالمحاباة والرشوة السياسية والإسكات بالموارِد. وسرعان ما يُصبِح هذا النظام موضوع نقمة شعبية واسِعة تحالِف الانقلاب مع طبقات الشعب المتذمِرة.
تتعزّز هذه الحركة الشعبية بإحساس قومي جديد في إفريقيا. وقد نظَر أكثَر من متابع إلى منابِع هذه القومية الجديدة، التي غالبًا ما طُبِخت في حسابات النشطاء الأفارقة في فرنسا، الذين لاكوا معلومات عن استعمار إفريقيا من قبل فرنسا-إفريقيا وأفشوا أفكار العلو الحضاري الإفريقي، خالقين به فكرًا تحرّريًا جديدًا. إلاّ أنّ وراء هذه الروح التحرّرية تفكير رغائبي وهو إزاحة الغرب باعتباره المانِع أمام تسيّس العسكر، وبالتالي عودة الجيوش الإفريقية إلى ممارسة لعبتها القديمة وهي الانقلابات والدخول في السياسة وإصلاح أزمات السياسة بالمراحِل الانتقالية المدعومة شعبيًا.
4
قد لا ينجح هذا الحراك العسكري في مواجهة الجهادية، لضعف معنويات الجيوش الإفريقية ولفسادها، فهي تبيع السلاح لأعدائها. أمّا لجوء هذه الجيوش إلى الميليشات والمرتزقة فسيؤدّي إلى إذاعة العنف بدل احتكارِه. ثمّ إنّ هذه الجيوش قد تخفق أكثَر من المدنيين في التسيير، كما يحدُث في مصر. وستضطرّ إلى خلق نظامٍ غوري بديل تُقيم به حزب الدولة. ولعلّ أنجَح نموذج عسكري في احتكار السلطة في المنطِقة إلى حد الآن هو النموذَج الموريتاني، الذي استطاع من خلاله الجيش إعادة كتابة عقد سياسي جديد تمّ فيه انتزاع مؤسّسة الرئاسة ورئاسة البرلمان والتحكّم في المناصِب والموارد والعلاقات العامة من قبل العسكر وإرجاع المدنيين إلى الصفّ الثاني. ورغم أنّ هذا النموذج نجح في لجم الجهادية (لأسبابِ منها أوَلها أنّها لم تكن خطَرًا ماحِقًا وأنّ ثقلها لم يكن موريتانيًا، ومنها عدم عسكرة الاختلافات العرقية) إلاّ أنّه دمّر التقليد المدني والدّيمقراطي ومأسَس الفساد. يتبّع هذا الحراك الإفريقي سنّة العسكر الموريتانيين. ومن الجلي أنّه لابدّ من إيجاد طريقة تخرج بها الجيوش من السياسة ويُقام فيها نظام ديمقراطي بديل غير قائم على الفساد. والأرجح أنّ ما يحتاجُه هذا ليس تحالف قوى مدنية وعسكرية، بل نضالات جماهيرية وحزبية واسِعة وطويلة الأمَد.