"أنصفينا في كتابك يا مها..."، تصرخ الأم مخاطبةً ابنتها الكاتبة. تلك الأم التي دفنت في حديقة الحارة بعد موتها من الحسرة على بيتها الذي أردته الصواريخ غبارًا. تبحث عن صوت ينصفها، ويخبر قصتها لعلها تجد العدالة في الحقيقة.
"عمتِ صباحًا أيتها الحرب" رواية رثائية لبيت العائلة مدينة حلب
وعليه يبدو من غير المستغرب افتتاح الرواية الجديدة للكاتبة السورية مها حسن "عمت صباحًا أيتها الحرب" (منشورات المتوسط، 2017) بمقبوس من كتاب "صلاة تشرنوبل" للكتابة البيلاروسية سفيتلانا أليكسيفيتش، حيث خبرت الأخيرة أصوات رواة الحرب وتردد صدى الكوارث التي غيّرت حياة الضحايا.
اقرأ/ي أيضًا: "مشاءة" سمر يزبك
ترثي الكاتبة مها حسن من منفاها الفرنسي بيت عائلتها في مدينة حلب، في سوريا البعيدة الباردة كصقيع السويد، هناك حيث يحاول آخر العنقود أخوها حسام العيش بعد أن رفضته السويد كما رفضته حلب وفصائلها المتقاتلة. العائلة الكرديّة التي كانت لها هوية الحارة التي عاشت فيها سنوات طويلة عهدت مها حسن على إخبار قصتها. هي صاحبة قول "ولدت لأروي" ورثت الروي عن النساء وبشكل خاص عن أمها أمينة بطلة الرواية ولسانها الدائر.
"أنا" الكاتبة الحاضر دائمًا في كل ما يقال، في السرد القائم على ذكريات الآخرين وتخيل أحداث أخرى، تصف نفسها بالآلة الكاتبة وتضعنا أمام فرضية مرآة الواقع فنصاب بكآبة الحقيقة، تكتب لتتخلص من عقدة البيت والشوق إليه، تضع أناها في الذكريات والتفاصيل، وفي "أنوات" الآخرين تأخذ حيز الأم مرات كثيرة تقول عنها أشياء توصف موتها ودفنها ومقرها الأخير في الحديقة التي صارت مقبرة الحي. تقول مها الابنة كل ما يصعب على الأم قوله، وترثي مها حسن الكاتبة حياة الأم والبيت وأحلام عاشت عليها لتكبر، ولما كبرت دفنها القصف تحت الأنقاض. وتهدي روايتها إلى كل سوري فقد بيته وعائلته وأهله في هذه الحرب التي تبدو دون نهاية. عن هاجس البيت كتبت حين رأت بأنه سيكون حلم السوريين بعد حلمهم الطويل بالحرية.
حكاية البيت
حكايات متفرقة ولكنها ذات منبعٍ واحد عذب. وهو البيت في حارة بني زيد في مدينة حلب، والذي يشكل خيطًا رفيع ومشدود على رقبة الأحداث الدائرة بوهج الحرب المشتعل، تبدأ الكاتبة مها حسن رويها من شهر كانون أول/ديسمبر عام 2016، حيث اتفق الروس والفصائل المسلحة على إفراغ حلب من أهلها ونقلهم إلى الريف الشمالي، يومها لم يخرج من بيت أهل الكاتبة أي شخص فهو قد فرّغ نفسه بنفسه، بعد موت الأم وغياب الجيران الذي يمثلون هوية الحارة ونبض البيت الذي هجره الأولاد إلى تركيا، وفنلندا، وهولندا، والسويد، وبيروت، وأحياء أخرى من حلب علّها تكون أكثر أمنًا. فعهدت الأم على جمع جيرانها تروي لهنّ الحكايات لتقيهنّ ملل انتظار الموت، وبدورهم يملؤن لها خزان الماء، ويتذكرونها بأطباق الطبخ.
الأم كما أرادت لها مها حسن أن تكون "شهرزاد الحرب" التي تروي الحكايات خوفًا من الموت، تروي لتستمر. "تمامًا كما شهرزاد، كانت تحكي لتبقي شهريار معها، وتؤجل موتها، كنت أحكي ليبقى معي الأخرون في أثناء الحرب، فأضمن، إن مت، فإنني سأرى أحدًا ماأمامي، أو ربما أمسك بيد أحد، فلا أموت وحدي".
"سقط البيت، يا نبي..."، تخاطب الأم زوجها وتروي حكاية آخر أيام البيت وأولها، مذ كانت تحارب في أول حياتها لتسجيل البيت باسم زوجها بعد أن ورثه مع اخوته عن أمه، واتفق الأخوة فبقي البيت لنبي. الذي كان ينهال غضبًا على زوجته في كل محاولة لها لشراء غسالة أو براد، أو أي غرضٍ يعمر به البيت القديم الكبير، فجاءت الحرب وأوقعت البيت فوق كل سنوات الصبر وما قاسته الأم لتشتري بشق الأنفاس أثاثته، التي سرقت فيما بعد وبقي اللابيت في حلب.
حكاية الأم
تظهر الأم من خلال أحاديثها مع مها ابنتها عبر الهاتف، فتشكل تلك الحوارات الهاتفية مقاطع من يومياتها وحياتها، كمنمنمات تتجمع مع بعضها مشكلةً صورة كاملة عن الحياة في حلب خلال الحرب والأسى المطبق على أهلها. ولتلك الحوارات أبعاد مسرحية فنتلقفها كمونولوجات مسرحية مقتطعة من ميلودراما سورية، ينفرد صوت الأم ببنائها وترسم أغراضها أبعاد الفضاء المسرحي للبيت والمدينة والحرب. تقطع تلك المونولوجات أصوات القذائف وتحليق الطيران، فتتركنا الكاتبة نحن والأم معلقين بهدير الصوت وتنتقل إلى منفى حسام نتابع الذي يجري معه، ونعود لمكالمة أخرى.
تنتقل الأم بين قصص الجيران والثرثرات التي تملأ بها يومها، تتمتع ببيتها وتتغزل بنظافته، رغم ما في قلبها من خوف، الانهيار قادم هي التي آمنت وصدقت بأن الله يحمي بيتها، حين سقطت جدران بيوت الجيران ومازال بيتها قائمًا، تملؤه بالمشاكل اليومية مع جاراتها، وبمكالمات مها للاطمئنان.
تمثّل مكالمات الأم مع ابنتها في "عمت صباحًا أيتها الحرب" مقاطع من يوميات حلب
تتدخل الأم في تجاويف الكتابة وتأخذ دفة القيادة لتبحر في الروي بلسان الكاتبة، مشكلةً حلقات متواصلة من التداعيات التي تستفز ذاكرة الكاتبة الابنة وتدفعها للتذكر والروي.
اقرأ/ي أيضًا: زينة هاشم بيك.. الإرهاب الجميل للشعر
كشخصية مسيطرة تسأل الأم ابنتها ماذا ستكتب عنها، وتوجه الأفكار نحو القول والاستذكار، وبذات الوقت تسألها وتطلب منها الاستماع وتدوين ماتقوله، طالبةً منها تلخيص حكاية موتها، فتكتب الكاتبة موت الأم بلسانها، حيث روحها تشاهد وتروي وتخبر الأولاد الغائبين كيف ماتت أمهم وحيدة باردة بعد أن سقط البيت عليها. الأم هي من الجيل الذي أخذت منه الحرب عمره وكل مابناه وحلم به وأعطتها الحسرة والموت.
العائلة كلها تروي عدة خطابات وهي أشبه بمونولوجات لحالٍ واحد ينطلق من البيت في حلب، وينتهي عند مفارق المنفى المختلفة. من رضي عن حياته ومن لم يرض بعد، يتفرقون بقهرٍ وأسى هؤلاء الأخوة الذين جعلت منهم الحرب غرباء. ورتبت من خلالهم الكاتبة كتابًا يضج بحوادث الألم والشقاء الإنساني الذي يشكل أحد وجوه الحرب العمياء، بعد أن فتحته على الحنين والفقدان والخيبة.
حكاية حسام
يمثل حسام حكاية الثورة، فهو ابنها البار وصوتها الواعي، بعد أن ساعدته على اكتشاف ذاته داخل الجماعة، داخل الحارة ومع أهلها. وبعدها انزاحت من المطالبة بالعدالة إلى السعي وراء تطبيق شرع الله. حسام هو الخيط الممتد على مفارق كبيرة من عمر السرد في الرواية، لا يغيب حتى يظهر ثانيةً، تستعرض من خلاله الكاتبة السيرة الذاتية للثوار، ولحظات المظاهرات السلمية، مارةً بالعسكرة، ثم الأسلمة حتى ينفلت خيط الخيبات والخسارات في حياته. فبات يرى حسام الفارق بين حقيقة الثورة ونتائجها الفعلية على الأرض، كالفارق بين كبة الزيت والخبز الذي نوت أمه أن توزعه على أهل الحارة إذا وصل إلى أوروبا، لكن الخبز كان غاليًا وغير متوفر. وكأنه نذرٌ بالخلاص والانعتاق من حمى الحرب لن يتحقق أبدًا، فتحايلت الأم عليه، واستبدلته بالبرغل.
وصل حسام بعد عناءٍ وأيامٍ صعبة في تركيا واليونان، ولكن السويد كانت له حلبَ أخرى، حين أعطته قرار الطرد بوجه مبتسم.
حسام الذي أرقه الانتماء والهوية بعد الثورة، لم تكن هي نفسها أهدافه عندما خرج في مظاهرات حلب، كما لم تدفعه الهوية للعمل الإغاثي متمنعًا عن حمل السلاح والقتل، هو الكردي رماه انتماؤه العربي بالرمل وأحرق عيناه.
"عفرين" مكان ولادته الذي لا يعرف والمنقوش على هويته الشخصية كان سيؤدي به إلى الموت، فبعض الكتائب المسلحة كانت تعتقل وتقتل كل كردي لأنه ملحد وخائن. "لكن السجن هزّني، لقد اعتقلوني لأنني كرديّ، ولم يهتموا كوني شريكًا لهم منذ بدء التظاهرات، لقد رموا كل تعبي"، ولكن هوية الحارة أنقذت حياته، حين تعرف عليه أحد رفاقه المقاتلين في معتقل الحياني الذي يقصف أعمار الكرد، فعفى عنه وتركه يتابع سيره نحو الحدود السورية التركية، هناك حيث انطوت الأرض تحت أقدام حسام، هو المهاجر دون أن يعلم، وبدون تخطيط راح يركض بعيدًا عن سوريا وتحته أرض زراعية مفلوحة يضرب بها أقدامه وتدفعه للأمام المجهول.
الهوية بالنسبة لحسام هي هوية الحارة، وفقد هويته بتهتك الحارة، حين تركها شبابها للعمل المسلح، ورمتها القذائف والصواريخ وحولها لتراب، وصار لأبنائها هوية مربكة عالقة في الممرات الفاصلة بين أحياء الموالاة والمعارضة، بعد أن كانت لهم هوية آمنة ومصيرًا واحدًا يجتمع فيه الكل. "شكلت الحارة أمان أمي، وشكلت لحسام حضوره وانتماءه، ومنحته قوامًا واعتبارًا، كأنه رجل، واعترفت به". هوية الحارة كانت تكثيف الهوية السورية التي ضيعتها الحرب وعملت على تفتيت المجتمع الأهلي الذي كان يقدم آمانًا مطلقًا، قبل أن يفتح باب الهروب إلى أوروبا.
في سوريا، صار لأبناء المدينة الواحدة هوية مربكة عالقة في الممرات الفاصلة بين أحياء الموالاة والمعارضة
تفرد الكاتبة مها حسن تفاصيل ويوميات أخيها في الكامب الذي أقام فيه في السويد، فيصلنا الملل والشوق الذي عاشه في مكان تبدو حلب بمأساتها أفضل منه. وتلجأ إلى الوصف حيث التفاصيل المنهكة الباردة، وكما وتستفيض بلمس التناقضات الفاقعة التي تحويها تلك الأكواخ الخشبية التي يقيم فيها اللاجئون في السويد، حيث التدين والتحرر نقيضان يكلفان غاليًا، فيبدو حسام مغتربًا أكثر من اغترابه الحقيقي، هناك من يجد حسام خطرًا لأنه يشرب الكحول فيستدعي الشرطة ويخبرهم بأمر الكافر، هو الهارب المنعوت بالكافر من حلب إلى السويد.
اقرأ/ي أيضًا: إياد شاهين الذي صفعنا ومات
انتهت رواية مها حسن ولم تنته الأم من الروي بعد. تؤنس الحكايات مدفنها في الحديقة فتعزم على تدليل الحرب "الأفعى المخيفة" كما وصفتها وقررت شهرزاد أن تروضها، فتنهي القول: "بلغني، أيتها الحرب السعيدة.."، وتهمس لها متصنعةً الفرح، "صباح الخير.. أيتها الحرب الحبيبة".
اقرأ/ي أيضًا: